جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٦٥
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٦٥
﴿لن تنالوا البر﴾ أي : لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله تعالى الذي هو الرحمة والرضا والجنة ﴿حتى تنفقوا مما تحبون﴾ من أموالكم أو ما يعمها وغيرها كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله تعالى والنفس في سبيله، وقال الحسن : لن تكونوا أبراراً.
روي أنه ﷺ قال :"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله.
روي لما نزلت هذه الآية جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء ـ وهو بفتح الباء الموحدة وكسرها وبفتح الراء وضمها مع المدّ والقصر ضيعة بالمدينة وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله ﷺ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ـ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله ﷺ "بخ بخ ذاك مال رابح ـ أو قال رائح ـ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة : افعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه" قوله ﷺ بخ بخ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرّر للمبالغة وهي مبنية على السكون، فإن وصلت كسرت ونونت وربما شدّدت وقوله : رابح أو رائح يقال لضيعة الإنسان : مال رائح بالياء أي : يروح نفعه إليه ورابح بالباء الموحدة أي : ذو ربح كقولك لابن وتامر أي : ذو لبن وذو تمر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٦٦
وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال : هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله ﷺ أسامة بن زيد بن حارثة فكأن زيداً وجد في نفسه وقال : إنما أردت أن أتصدّق به، فقال رسول الله ﷺ "أما إن الله قد قبلها منك" وكتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعريّ أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما جاءت أعجبته فقال : إن الله قال :
﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ (آل عمران، ٩٢) فأعتقها وقال : لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها ﴿وما تنفقوا من شيء﴾ أي : من أي شيء تحبونه أو غيره ومن بيان لما ﴿فإنّ الله به عليم﴾ فيجازيكم بحسبه.
٢٦٦
ولما قالت اليهود لرسول الله ﷺ إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست أنت على ملته، فقال النبيّ ﷺ "كان ذلك حلالاً لإبراهيم" فقالوا : كل ما نحرّمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا" نزل.
﴿كل الطعام﴾ أي : المطعومات أو كل أنواع الطعام ﴿كان حلاً﴾ أي : حلالاً أكله ﴿لبني إسرائيل﴾ والحل مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع قال تعالى :﴿لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن﴾ (الممتحنة، ١٠) ﴿إلا ما حرم إسرائيل﴾ وهو يعقوب ﷺ ﴿على نفسه من قبل أن تنزل التوراة﴾ أي : ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم بل كان الكل حلالاً له ولبني إسرائيل وإنما حرمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة فليس في التوراة حرمتها. واختلفوا في الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه وفي سببه، فقال مقاتل والكلبي : كان ذلك الطعام لحمان الإبل وألبانها وسبب ذلك أنه مرض مرضاً شديداً وطال سقمه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان ذلك أحب إليه فحرمه، وقال ابن عباس والضحاك : هي العروق وسبب ذلك أنه اشتكى عرق النسا ـ وهو بفتح النون والقصر عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ ـ وكان أصل وجعه أنه كان نذر إن وهبه الله اثني عشر ولداً وأتى بيت المقدس صحيحاً أن يذبح آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة فقال : يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا ثم قال له : أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة ؛ لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت ولدك فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجاً فكان لا ينام بالليل من الوجع فحلف يعقوب لئن عافاه الله تعالى أن لا يأكل عرقاً ولا طعاماً فيه عرق، فحرّمه على نفسه وكان بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق يخرجونها من اللحم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٦٦