الحجر، فغاصت به قدماه وهذا هو المشهور، والقول الثاني أنه لما جاز إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حوّلته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه. قال البيضاوي : وقيل عطف بيان وردّ هذا القول بأنّ آيات نكرة ومقام إبراهيم معرفة ولا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين وقوله تعالى :﴿ومن دخله كان آمناً﴾ جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي : ومنها أمن من دخله وذلك بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام :﴿رب اجعل هذا البلد آمناً﴾ (إبراهيم، ٣٥)، وفي الإقتصار على ذكر هاتين الآيتين وطيّ ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما، ونحوه في طي الذكر قول جرير :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٦٦
كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم ** من العبيد وثلث من مواليها
ومنه قوله ﷺ "حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة، والأمن من العذاب يوم القيامة" قال عليه الصلاة والسلام :"من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً" رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما.
وروي أنه ﷺ قال :"الحجون والبقيع يؤخذا بأطرافهما وينثران في الجنة" والحجون مقبرة مكة والبقيع مقبرة المدينة. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى : من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما لم يتعرّض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتل، وكان عمر بن الخطاب يقول : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه، وعند الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى : لا يلجأ إلى الخروج بل يقتل للأمر في خبر الشيخين بقتل ابن خطل وقد كان ارتدّ وتعلق بأستار الكعبة وأمّا قوله : ومن دخله كان آمناً وخبر من دخل المسجد فهو آمن فمعناه جمعاً بين الأدلة أنّ من دخله بغير استحقاق قتل كان آمناً، ومن دخله بعد استحقاق قَتل قُتل، وأما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفى منه بالإتفاق ﴿و على الناس حج البيت﴾ أي : قصده للزيارة على وجه مخصوص وهو أحد أركان الإسلام، قال ﷺ "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان" وقرأ حفص وحمزة والكسائي بكسر الحاء وهي لغة نجد وقرأ الباقون بالفتح وهي لغة أهل الحجاز
٢٦٩
وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد وقوله تعالى :﴿من استطاع إليه﴾ أي : الحج أو البيت ﴿سبيلاً﴾ أي : طريقاً بدل من الناس مخصص له "وفسر رسول الله ﷺ الإستطاعة بالزاد والراحلة" رواه الحاكم وغيره ﴿ومن كفر﴾ أي : بما فرضه الله من الحج أو كفر بالله ﴿فإنّ الله غني عن العالمين﴾ أي : الإنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم وقيل : وضع كفر موضع لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه ولذلك قال ﷺ "من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً" رواه الترمذي وضعفه ونحوه في التغليظ :"من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر".
تنبيه : في هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد على طلب الحج منها قوله تعالى :﴿و على الناس حج البيت﴾ أي : أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ومنها أنه ذكر الناس ثم أنه أبدل منه من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التوكيد : أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أنّ الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ومنها ذكر الإستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ومنها قوله : عن العالمين ولم يقل عنه وفيه من الدلالة على الإستغناء عنه ببرهان ؛ لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الإستغناء لا محالة ولأنه يدل على الإستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود فإنهم قالوا : الحج إلى مكة غير واجب.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٦٦
وروي أنه لما نزل قوله تعالى :﴿و على الناس حج البيت﴾ جمع رسول الله ﷺ أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال :"إنّ الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل وهم المشركون واليهود والنصارى والصابئون والمجوس، قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل : ومن كفر إلخ". وعنه ﷺ "حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرّتين ويرفع في الثالثة".


الصفحة التالية
Icon