ليسوا} أي : أهل الكتاب ﴿سواء﴾ أي : مستوين، وقوله تعالى :﴿من أهل الكتاب أمّة قائمة﴾ أي : مستقيمة ثابتة على الحق استئناف لبيان نفي الإستواء وهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأصحابه. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لما أسلم عبد الله بن سلام قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله هذه الآية ﴿يتلون آيات الله﴾ أي : يقرؤون كتاب الله ﴿آناء الليل﴾ أي : في ساعاته وقوله تعالى :﴿وهم يسجدون﴾ حال أي : يصلون ؛ لأنّ التلاوة لا تكون في السجود، واختلفوا في معناها فقال بعضهم : هي قيام الليل. وقال ابن مسعود : هي صلاة العتمة ؛ لأنّ أهل الكتاب لا يصلونها لما روي :"أنه عليه الصلاة والسلام أخرها ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما إنه ـ أي : الشأن ـ ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم" رواه الإمام أحمد والنسائيّ وغيرهما وقوله : غيركم بالنصب خبر ليس ومن أهل الأديان حال من أحد قاله التفتازاني. ثم وصف الله تعالى تلك الأمة القائمة بصفات أخر فقال :
﴿يؤمنون با واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك﴾ أي : الموصوفون بما ذكر ﴿من الصالحين﴾ أي : ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناه أي : والأمة الأخرى غير قائمة بل منحرفون عن الحق غير متعبدين بالليل مشركون بالله ملحدون في صفاته واصفون لليوم الآخر بغير صفته متباطئون عن الخيرات فترك هذه اكتفاء بذكر أحد الفريقين.
﴿وما تفعلوا من خير فلن تكفروه﴾ أي : تعدموا ثوابه بل تجازون عليه، وقرأ حفص وحمزة والكسائيّ بالياء فيهما أي : الأمة القائمة والباقون بالتاء على الخطاب أي : أيها الأمة القائمة وقوله تعالى :﴿وا عليم بالمتقين﴾ بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأنّ الفائز عند الله هو أهل التقوى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧٥
﴿إنّ الذين كفروا لن تغني﴾ أي : تدفع ﴿عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله﴾ أي : من عذابه ﴿شيئاً﴾ وخص الأموال والأولاد بالذكر لأنّ الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد ﴿وأولئك أصحاب النار﴾ أي : ملازموها ﴿هم فيها خالدون مثل﴾ أي : صفة.
﴿ما ينفقون﴾ أي : الكفار ﴿في هذه الحياة الدنيا﴾ في عداوة النبيّ ﷺ ونحوها ﴿كمثل ريح فيها صرّ﴾ قال أكثر المفسرين : فيها برد شديد وحكي عن ابن عباس أنها السموم الحارّة التي تقتل وقيل : فيها صرّ أي : صوت ﴿أصابت حرث﴾ أي : زرع ﴿قوم ظلموا أنفسهم﴾ بالكفر والمعاصي
٢٧٧
﴿فأهلكته﴾ عقوبة لهم ؛ لأنّ الإهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ والمعنى مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح الزرع فلم ينتفعوا به فكذلك نفقة هؤلاء ذاهبة لا ينتفعون بها ﴿وما ظلمهم الله﴾ بضياع نفقاتهم ﴿ولكن أنفسهم يظلمون﴾ بالكفر الموجب لضياعها ويجوز أن يعود الضمير لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم أي : وما ظلمهم الله تعالى بإهلاك حرثهم ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧٧
يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة﴾ أي : أصفياء تطلعونهم على سرّكم ثقة بهم شبهوا ببطانة الثوب كما شبهوا بالشعار قال عليه الصلاة والسلام :"الأنصار شعار والناس دثار" رواه الشيخان والشعار ما يلي الجسد والدثار فوقه وقوله تعالى :﴿من دونكم﴾ أي : من دون المسلمين متعلق بلا تتخذوا أو بمحذوف هو صفة بطانة أي : كائنة من دونكم أي : غيركم من الكفار المنافقين ﴿لا يألونكم خبالاً﴾ أي : لا يقصرون لكم في الفساد والألو التقصير وأصله أن يعدّى بالحرف وعدي إلى مفعولين كقولهم : لا آلوك نصحاً على تضمين معنى المنع أو النقص والمعنى لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه ﴿ودّوا﴾ أي : تمنوا ﴿ما عنتم﴾ أي : عنتكم وهو شدّة الضرر وما مصدرية أي : تمنوا أن يضرّوكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر وأبلغه ﴿قد بدت﴾ أي : ظهرت ﴿البغضاء من أفواههم﴾ أي : في كلامهم بالوقيعة فيكم وإطلاع المشركين على سركم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم، وعن قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك ﴿وما تخفي صدورهم﴾ من العداوة والغيظ ﴿أكبر﴾ أي : أعظم مما بدا ؛ لأنّ بدوّه ليس عن روية واختيار ﴿قد بينا لكم الآيات﴾ الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ﴿إن كنتم تعقلون﴾ ما بين لكم فلا توالوهم.
فإن قيل : كيف موقع هذه الجمل وهي لا يألونكم وودّوا ما عنتم وقد بدت البغضاء وقد بينا لكم الآيات أجيب : بأنها مستأنفات على وجه التعليل بمعنى إنّ كلا علة للنهي عن اتخاذهم بطانة.