فظاهر هذه الآيات يدل على أنه تعالى إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها، وأجاب المتكلمون عنها بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها، فثبت أن التغير في العلم محال إلا أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدرة مجاز مشهور يقال : هذا علم فلان والمراد معلومه، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدّد العلم فالمراد تجدّد المعلوم وإذا عرف هذا فهذه الآية محتملة لوجوه أحدها : ليظهر المخلص من المنافق والمؤمن من الكافر وثانيها : ليعلم أولياء الله وأضاف إلى نفسه تفخيماً وثالثها : ليحكم بالإمتياز فأوقع العلم مكان الحكم بالامتياز ؛ لأنّ الحكم لا يحصل إلا بعد العلم ورابعها : ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع ؛ لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لا يوجد ﴿ويتخذ منكم شهداء﴾ ويكرم ناساً منكم بالشهادة وهم المتشهدون يوم أحد أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما وجد منهم من الثبات والصبر على الشدائد كما قال تعالى : لتكونوا شهداء على الناس وقوله تعالى :﴿وا لا يحب الظالمين﴾ قال ابن عباس أي المشركين كقوله تعالى :﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾ وهو اعتراض بين بعض التعاليل وبعض وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يظفرهم أحياناً استدراجاً لهم وابتلاء للمؤمنين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٨٣
٢٨٨
﴿وليمحص الله الذين آمنوا﴾ أي : ليطهرهم من الذنوب بما أصابهم ﴿ويمحق﴾ أي : يهلك ﴿الكافرين﴾ أي : إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والإستشهاد والتمحيص وغير ذلك مما هو أصلح لهم، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم.
﴿أمّ﴾ منقطعة مقدّرة ببل ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي : بل أ﴿حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين﴾ في الشدائد وقد مرّ معنى يعلم.
تنبيه : قال البيضاوي : والفرق بين لما يعلم ولم أنّ في لما توقع الفعل فيما يستقبل لكن قال أبو حيان : لا أعلم أحداً من النحويين ذكره بل ذكروا أنك إذا قلت لما يخرج زيد دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار، وأمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا انتهى. لكن قال الفرّاء : لما لتعريض الوجود بخلاف لم.
﴿ولقد كنتم تمنون﴾ فيه حذف إحدى التاءين في الأصل أي : تتمنون ﴿الموت﴾ أي : الحرب فإنها من أسباب الموت أو الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدراً وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله ﷺ مشهداً لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج ﴿من قبل أن تلقوه﴾ أي : تشاهدوه وتعرفوا شدّته ﴿فقد رأيتموه﴾ أي : الحرب أو الموت حتى قتل دونكم من قتل من إخوانكم ﴿وأنتم تنظرون﴾ أي : بصراء تتأملون الحال كيف هم فلم انهزمتم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٨٨
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل﴾ فسيخلو كما خلوا بالموت أو القتل ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد ؛ لأنّ الحمد لا يستوجبه إلا الكافل والتحيمد فوق الحمد فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال وأكرم الله تعالى نبيه وصفيه ﷺ باسمين مشتقين من اسمه جل وعلا محمد وأحمد وفيه يقول حسان بن ثابت :
*وشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود وهذا محمد*
وقوله تعالى :﴿أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾ إنكار لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه ﷺ بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿أفإن مات أو قتل﴾ شك وهو على الله محال ؟
أجيب : بأن المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجود الإرتداد، قال ابن عباس وأصحاب المغازي : لما رأى خالد بن الوليد الرماة يوم أحد اشتغلوا بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في
٢٨٩