والغموم كانت هناك كثيرة أحدها : غمهم بما نالهم من العدوّ في الأنفس والأموال وثانيها : غمهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها وثالثها : غمهم بما وصل إلى الرسول ﷺ ورابعها : غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم ؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الإنهزام وذلك من أشق الأشياء ؛ لأنّ الإنسان بعد انهزامه يضعف قلبه ويجبن فإذا أمر بالمعاودة فإن فعل خاف القتل، وإن لم يفعل خاف عقاب الآخرة وخامسها : غمهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل وسادسها : غمهم حين أشرف عليهم خالد بن الوليد بخيل المشركين وسابعها : غمهم حين أشرف عليهم أبو سفيان.
وذلك أن رسول الله ﷺ انطلق يومئذٍ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه وأراد أن يرميه فقال :"أنا رسول الله" ففرحوا حين وجدوه وفرح ﷺ حين رأى من يمتنع به فأقبلوا على المشركين يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم، فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله ﷺ "ليس لهم أن يعلونا اللهمّ إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض" ثم بدت أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، وإذا عرفت ذلك فلا يضر اختلاف المفسرين، فإن بعضهم فسر هذين الغمين بغمين من هذه وبعضهم بخلافه وقال القفال : وعندي أن الله تعالى ما أراد بقوله غماً بغمّ اثنين وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها أي : إن الله تعالى عاقبكم بغموم كثيرة مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، فكأنه تعالى قال : أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زجراً لكم عن الإقدام على المعصية والإشتغال بما يخالف أمر الله تعالى. والغمّ التغطية ومنه غمّ الهلال إذا لم ير وقوله تعالى ﴿لكيلا تحزنوا على ما فاتكم﴾ أي : من الغنيمة متعلق بعفا أو بأثابكم فلا زائدة ﴿ولا ما أصابكم﴾ أي : من القتل والهزيمة ﴿وا خبير بما تعملون﴾ أي : عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٢
٢٩٤
﴿ثم أنزل عليكم﴾ يا معشر المسلمين ﴿من بعد الغمّ أمنة﴾ أي : أمناً والأمن والأمنة بمعنى واحد وقيل : الأمن يكون مع زوال سبب الخوف، والأمنة مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف ههنا قائماً وقوله تعالى :﴿نعاساً﴾ بدل من أمنة، وأمنة مفعول أو نعاساً هو المفعول وأمنة حال منه متقدّمة ﴿يغشى طائفة منكم﴾ وهم المؤمنون. وقرأ حمزة والكسائيّ بالتاء على التأنيث ردّاً إلى الأمنة والباقون بالياء على التذكير ردّاً إلى النعاس ﴿وطائفة﴾ وهم المنافقون ﴿قد أهمتهم أنفسهم﴾ أي : حملتهم على الهزيمة فلا رغبة لهم إلا إنجاءها دون النبيّ ﷺ وأصحابه فلم يناموا، فإن الذين كانوا مع رسول الله ﷺ يوم أحد فريقان أحدهما : الجازمون بنبوّة محمد ﷺ فهؤلاء كانوا قاطعين بأن الله ينصر هذا الدين وأن هذه الوقعة لا تؤدّي إلى الاستئصال فلا جرم كانوا آمنين وبلغ ذلك الأمن إلى أن غشيهم النعاس فإن النوم لا يجيء مع الخوف، قال أبو طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فكان السيف يسقط من أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه، وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس. قال الزبير : كنت مع رسول الله ﷺ حين اشتدّ الخوف، فأرسل الله علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن بشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول :﴿لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا﴾. والفريق الثاني : هم المنافقون كانوا شاكين في نبوّته ﷺ وما حضروا إلا لطلب الغنيمة فهؤلاء اشتدّ جزعهم وعظم خوفهم. قال ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق بالله والفراغ من الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٤
فإن قيل : ما فائدة هذا النعاس ؟
أجيب : بأنّ له فوائد : الأولى : أنّ السهر يوجب الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوّة والنشاط والثانية : أنّ الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله تعالى النوم على الباقين لئلا يشاهدوا قتل غيرهم فيشتدّ خوفهم والثالثة : أنّ الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم في النوم مع السلامة في تلك المعركة من أدل الدلائل على أنّ الله تعالى يحفظهم ويعصمهم وذلك مما يزيل الخوف من قلوبهم ويورّثهم الأمن.
تنبيه : قوله تعالى :﴿وطائفة﴾ مبتدأ والخبر ﴿قد أهمتهم أنفسهم﴾.


الصفحة التالية
Icon