فإن قيل : كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق وكم من مرتاب فيه ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى ما نفى أن أحداً لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله﴾ (البقرة، ٢٣) فإنه لم ينف عنهم الريب بل أرشدهم إلى الطريق المزيح للريب وهو أن يجتهدوا في معارضة سورة من سوره ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة وقيل : هو خبر بمعنى النهي أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى :﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾ (البقرة، ١٩٧) أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيه الريبة وهي قلق النفس واضطرابها سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة، وفي الحديث :"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الشك ريبة والصدق طمأنينة"، رواه الترمذي لكن بلفظ فإنّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة وصححه، ومعناه : اترك ما فيه شك إلى ما لا شك فيه فإذا ارتابت نفسك في شيء فاتركه أو اطمأنت إليه فافعله فإنّ نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية الطاهرة.
تنبيه : جملة النفي خبر مبتدؤه ذلك و﴿هدى﴾ خبر ثانٍ أي هادٍ ﴿للمتقين﴾ الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار. وتخصيص المتقين بالذكر تشريفاً لهم ولأنهم هم المنتفعون بالهدى كما قال تعالى :﴿إنما أنت منذر من يخشاها﴾ (النازعات، ٤٥) وقال تعالى :﴿إنما تنذر من اتبع الذكر﴾ (يس، ١١) وقد كان ﷺ منذراً لكل الناس لأنّ هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره.
٢٥
ولها ثلاث مراتب :
الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى :﴿وألزمهم كلمة التقوى﴾ (الفتح، ٢٦).
والثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهذا التجنب هو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى :﴿ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا﴾ (المائدة، ٦٥) (الأعراف، ٩٦) وعلى هذا قول عمر بن عبد العزيز : التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.
والثالثة : أن يتنزه عما يشغل سرّه عن الحق تعالى وهذه هي التقوى الحقيقية المطلوبة بقوله تعالى :﴿يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته﴾ (آل عمران، ١٠٢) وقال ابن عمر : التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد. قرأ ابن كثير : فيه هدى، فيصل الهاء من فيه بياء في الوصل لأنها مكسورة وقبلها ساكن فإن كانت هاء الكناية مضمومة وقبلها ساكن وصلها بواو فإن كان قبلها متحرّك وبعدها متحرّك فجميع القرّاء يصلونها مكسورة بياء ويصلونها مضمومة بواو، فمثال المكسورة به أن يوصل، ومثال المضمومة قال له صاحبه وهو وما أشبه ذلك، فإن كان قبلها متحرّك وبعدها ساكن فالجميع على عدم الصلة مثال ذلك به الله وله الملك وما أشبه ذلك، ويدغم أبو عمرو الهاء في الهاء بخلاف عنه، وكذا كل مثلين ما لم يكن الحرف المدغم تاء متكلم مثل : كنت تراباً أو تاء مخاطب مثل أفأنت تكره الناس أو منوّناً مثل : سميع عليم أو مشدّداً مثل : فتمّ ميقات ربه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٣
ثم وصف المتقين بما هو شأنهم بقوله :﴿الذين يؤمنون بالغيب﴾ أي : يصدّقون بما غاب عنهم من البعث والجزاء والجنة والنار والصراط والميزان، والإيمان لغة التصديق وشرعاً قيل : التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد ﷺ كالتوحيد والنبوّة والبعث والجزاء ومجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدّثين والمعتزلة والخوارج والأصح أنه التصديق وحده، ويدل له أنه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال :﴿كتب في قلوبهم الإيمان﴾ (المجادلة، ٢٢) وقال :﴿وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ (النحل، ١٠٦) وقال :﴿ولم تؤمن قلوبهم﴾ (المائدة، ٤١) وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال :﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا﴾ (الحجرات، ٩) ﴿يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى﴾ (البقرة، ١٧٨) فلو لم يكن الإيمان التصديق فقط بل هو وترك المعاصي لم يكونوا مؤمنين.


الصفحة التالية
Icon