فإن قيل : المغفرة هي الرحمة فلم كررها ونكرها ؟
أجيب : بأنه إنما نكرها إيذاناً بأن أدنى خير وأقلّ شيء خير من الدنيا وما فيها وهو المراد بقوله :﴿خير مما تجمعون﴾ من الدنيا وأما التكرير فغير مسلم ؛ لأنّ المغفرة مترتبة على الرحمة فيرحم ثم يغفر.
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعون أصلاً ؟
أجيب : بأنّ الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيراً وأيضاً هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٤
﴿ولئن متم أو قتلتم﴾ على أيّ وجه اتفق هلاككم ﴿لا إلى الله﴾ لا غيره ﴿تحشرون﴾ في الآخرة فيجازيكم وقرأ نافع وحمزة ﴿متم﴾ بكسر الميم والباقون بالضم، وقرأ حفص ﴿يحشرون﴾ بياء الغيبة والباقون بتاء الخطاب ورسمت لا إلى الله بألف بعد اللام.
فإن قيل : هنا ثلاثة مواضع فقدّم الموت على القتل في الأوّل والأخير وقدّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمة في ذلك ؟
أجيب : بأنّ الأوّل لمناسبة ما قبله من قوله :﴿إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزا﴾ فرجع الموت لمن ضرب في الأرض والقتل لمن غزا، وأمّا الثاني فلأنه محل تحريض على الجهاد فقدّم الأهم الأشرف، وأمّا الأخير فلأن الموت أغلب.
﴿فبما رحمة﴾ أي : فبرحمة ﴿من الله لنت لهم﴾ فما مزيدة للتأكيد والجار والمجرور مقدّم للدلالة على أنّ لينه ﷺ ما كان إلا برحمة من الله، ومعنى الرحمة توفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه ﴿ولو كنت فظاً﴾ أي : سيىء الخلق ﴿غليظ القلب﴾ أي : جافياً ﴿لانفضوا﴾ أي : تفرّقوا ﴿من حولك﴾ أي : عنك وذلك ؛ لأنّ المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله تعالى إلى الخلق وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه وسكون نفوسهم لديه وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم كريماً يتجاوز عن ذنوبهم ويعفو عن سيئاتهم ويخصهم بالبر والشفقة فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق وغلظ القلب ويكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء كثير القيام بإعانة الفقراء. وحمل القفال هذه الآية على واقعة أحد قال : فبما رحمة من الله لنت لهم يوم أحد حين عادوا إليك بعد الإنهزام، ولو كنت فظاً غليظ القلب فشافهتهم بالملامة على ذلك الإنهزام لانفضوا من حولك هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الإنهزام، فكان ذلك مما يطمع العدوّ فيك وفيهم ﴿فاعف﴾ أي : تجاوز ﴿عنهم﴾ أي : ما أتوه ﴿واستغفر لهم﴾ ذنوبهم حتى أشفعك فيهم فأغفر لهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٨
واختلفوا في معنى قوله تعالى :﴿وشاورهم في الأمر﴾ على وجوه أحدها : إنّ ذلك يقتضي شدّة محبته لهم فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة لهم فيحل سوء الخلق والفظاظة وثانيها : إنه عليه الصلاة والسلام وإن كان أكمل الناس عقلاً إلا أنّ عقول الخلق غير متناهية، فقد يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر ببال آخر لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام :"أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم" ولهذا السبب قال ﷺ "ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم" وثالثها : قال الحسن وسفيان بن عيينة : إنما أمر بذلك ليقتدي
٢٩٨
به غيره في المشاورة وتصير سنة ورابعها : أنه عليه الصلاة والسلام شاورهم في وقعة أحد أشاروا عليه بالخروج وكان ميله أن لا يخرج، فلما خرج وقع ما وقع فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم شيء، فأمر الله تعالى بمشاورتهم بعد تلك الواقعة ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة وخامسها : أمره بالمشاورة لا ليستفيد منهم رأياً ولكن ليعلم مقادير عقولهم ومحبتهم له. وذكروا أيضاً وجوهاً أخر، وفي هذا القدر كفاية واتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور الأمّة فيه ؛ لأنّ النص إذا جاء بطل الرأي ﴿فإذا عزمت﴾ أي : قطعت الأمر على إمضاء ما تريد بعد المشاورة ﴿فتوكل على الله﴾ أي : ثق به لا بالمشاورة فليس التوكل إهمال التدبير بالكلية بل بمراعاة الأسباب مع تفويض الأمر إلى الله تعالى ﴿إن الله يحب المتوكلين﴾ عليه فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح.
﴿إن ينصركم الله﴾ أي : يعنكم على عدوّكم كيوم بدر ﴿فلا غالب لكم﴾ أي : فلا يغلبكم أحد ﴿وإن يخذلكم﴾ بترك نصركم كيوم أحد ﴿فمن ذا الذي ينصركم من بعده﴾ أي : من بعد خذلانه أي : لا أحد ينصركم. وفي هذا تنبيه على المقتضي للتوكل وتحريض على ما يستحق به النصر من الله وتحذير عما يستجاب خذلانه ﴿وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ أي : فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا أن لا ناصر سواه ؛ لأنّ إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه.