﴿لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء﴾ قال الحسن ومجاهد لما نزل قوله تعالى :﴿من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً﴾ (البقرة، ٢٤٥)
قالت اليهود : إنّ الله فقير ويستقرض منا ونحن أغنياء، وذكر الحسن : أنّ قائل هذه المقالة حييّ بن أخطب، وقال عكرمة والسديّ ومقاتل ومحمد بن إسحق :"كتب النبيّ ﷺ مع أبي بكر الصدّيق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد أناساً كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أنّ محمداً ﷺ قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فآمن وصدّق وأقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب، فقال فنحاص : يا أبا بكر تزعم أنّ ربنا يستقرض من أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان ما تقول حقاً فإنّ الله إذن لفقير ونحن أغنياء وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنياً ما أعطانا الربا يعني في قوله :﴿فيضاعفه له أضعافاً كثيرة﴾ (، )
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٩
فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدوّ الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله ﷺ فقال : يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله ﷺ لأبي بكر :"ما حملك على ما صنعت ؟
" فقال : يا رسول الله إنّ عدوّ الله قال قولاً عظيماً زعم أنّ الله فقير وهم أغنياء فغضبت لله فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله عز وجل ردّاً على فنحاص وتصديقاً لأبي بكر رضي الله تعالى عنه :﴿لقد سمع الله﴾ الآية".
وهذا لا يدل على أنّ غيره لم يقل ذلك ؛ لأنّ الآية دالة على أنّ القائل جماعة لقوله تعالى :
٣١٠
الذين قالوا :﴿سنكتب﴾ أي نأمر بكتب ﴿ما قالوا﴾ من الإفك والفرية في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه ونحوه وإنا له كاتبون أو سنحفظه في علمنا لا نهمله ؛ لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله واستهزاء بالله والرسول ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء كما قال تعالى :﴿وقتلهم﴾ أي : وسنكتب قتلهم ﴿الأنبياء بغير حق﴾ وفي نظمه به تنبيه على أنه ليس أوّل جريمة ارتكبوها وأنّ من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول ﴿ويقول﴾ أي : الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة ﴿ذوقوا عذاب الحريق﴾ أي : النار وهي بمعنى المحرق كما يقال عذاب أليم أي : مؤلم وقرأ حمزة : سيكتب بالياء المثناة تحت بعد السين مضمومة وفتح التاء بعد الكاف وضمّ اللام من قتلهم وبالياء في ويقول والباقون بالنون بعد السين مفتوحة وضمّ التاء بعد الكاف ونصب اللام من قتلهم وبالنون في ونقول ويقال لهم : إذا ألقوا في النار.
﴿ذلك﴾ أي : العذاب ﴿بما قدّمت أيديكم﴾ من الإفتراء وقتل الأنبياء وغير ذلك من المعاصي وعبر بالأيدي عن الأنفس ؛ لأنّ أكثر أعمالها بهنّ ﴿وأنّ الله ليس بظلام﴾ أي : بذي ظلم ﴿للعبيد﴾ فيعذبهم بغير ذنب.
فإن قيل : ظلام للمبالغة المقتضية للتكثير فهو أخص من ظالم ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعمّ أجيب : بأنه لما قوبل بالعبيد وهم كثيرون ناسب أن يقابل الكثير بالكثير وبأنه إذا نفي الظلم الكثير ينفى القليل ؛ لأنّ الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك كثيره مع زيادة نفعه فيمن يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أترك وبأن ظلام للنسب كما قدّرته في الآية الكريمة، كما في بزاز وعطار أي : لا ينسب إليه ظلم البتة وقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٩