تنبيه : قياماً وقعوداً حالان من فاعل يذكرون وعلى جنوبهم حال أيضاً فيتعلق بمحذوف، والمعنى يذكرون قياماً وقعوداً ومضطجعين فعطف الحال المؤوّلة على الصريحة عكس الآية الأخرى وهي قوله : دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً حيث عطف الصريحة على المؤوّلة ﴿ويتفكرون في خلق السموات والأرض﴾ وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله تعالى ويعرفون أنّ لهما مدبراً حكيماً. قال بعض العلماء : الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث في القلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة.
وروي عنه ﷺ "لا تفضلوني على يونس بن متى" ـ أي : تفضيلاً يؤدي إلى تنقيصه وإلا فهو ﷺ سيد ولد آدم ـ فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض. قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله تعالى الذي هو عمل القلب، لأنّ أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض، وقال ﷺ "لا عبادة كالتفكر" أي : لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق لكن الحديث رواه البيهقيّ وغيره وضعفوه وقال ﷺ "بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أنّ لك رباً وخالقاً اللهمّ اغفر لي فنظر الله تعالى إليه فغفر له" رواه الثعلبيّ بسند فيه من لا يعرف قال البيضاوي : وهذا دليل واضح على شرف علم أصول الدين وفضل أهله وقوله تعالى :﴿ربنا ما خلقت هذا باطلاً﴾ على إرادة القول أي : يتفكرون قائلين ذلك، وهذا إشارة إلى الخلق بمعنى المخلوق من السموات والأرض أو إلى السموات والأرض ؛ لأنهما في معنى المخلوق والمعنى ما خلقته عبثاً وضائعاً من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك.
٣١٥
تنبيه : نصب باطلاً على الحال من هذا وهي حال لا يستغنى عنها لو حذفت لاختل الكلام وهي كقوله تعالى :﴿وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين﴾ (الدخان، ٣٨)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣١٣
وقيل : على إسقاط حرف الخفض وهو الباء والمعنى ما خلقتهما بباطل بل بحق وقدرة ﴿سبحانك﴾ أي : تنزيهاً لك عن العبث وهو معترض بين قوله ﴿ربنا﴾ وبين قوله ﴿فقنا عذاب النار﴾ أي : للإختلال بالنظر في خلق السموات والأرض والقيام بما يقتضيه قال أبو البقاء : ودخلت الفاء لمعنى الجزاء والتقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا قال ابن عادل : ولا حاجة إليه بل التسبب فيها ظاهر تسبب عن قولهم ﴿ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك﴾ طلبهم وقاية النار.
﴿ربنا إنك من تدخل النار﴾ أي : للخلود فيها ﴿فقد أخزيته﴾ أي : أهنته ﴿وما للظالمين﴾ أي : للكافرين فيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بتخصيص الخزي بهم ﴿من أنصار﴾ أي : أنصار فمن زائدة زيدت لتأكيد النفي.
﴿ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي﴾ أي : يدعو الناس ﴿للإيمان﴾ أي : إليه وهو محمد ﷺ أو القرآن العظيم ﴿أن﴾ أي : بأن ﴿آمنوا بربكم فآمنا﴾ به.
فإن قيل : أي فائدة في الجمع بين منادياً وينادي ؟
أجيب : بأنه ذكر المبدأ مطلقاً ثم مقيداً بالإيمان تفخيماً لشأن المنادي ؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان ونحوه قولك : مررت بهاد يهدي للإسلام وذلك أنّ المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب أو لإغاثة المكروب أو نحو ذلك وكذا الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ويهدي لسداد الرأي وغير ذلك، فإذا قلت : ينادي للإيمان ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا ﴿ربنا فاغفر لنا ذنوبنا﴾ أي : الكبائر منها ﴿وكفر عنا سيآتنا﴾ أي : الصغائر منها أو يكون ذلك من باب التعميم والإستيعاب كقوله :﴿الرحمن الرحيم﴾ ولأنّ الإلحاح والمبالغة في الدعاء أمر مطلوب ﴿وتوفنا مع الأبرار﴾ أي : مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم وهم الأنبياء والصالحون وفيه تنبيه على إنهم يحبون لقاء الله تعالى "ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه"، رواه الشيخان.
﴿ربنا وآتنا﴾ أي : أعطنا ﴿ما وعدتنا﴾ به ﴿على﴾ ألسنة ﴿رسلك﴾ من الرحمة والفضل وسؤالهم ذلك، وإن كان وعده تعالى لا يتخلف سؤال أن يجعلهم من مستحقيه ؛ لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة، فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها وتكرير ربنا مبالغة في التضرّع. وفي الآثار : من جزبه أي أصابه أمر فقال : ربنا خمس مرات أنجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد ﴿ولا تخزنا﴾ أي : ولا تعذبنا ولا تفضحنا ولا تهنا ﴿يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد﴾ أي : الموعد بإثابة المؤمن وإجابة الداعي، وعن ابن عباس : الميعاد البعث بعد الموت.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣١٣