فإن قيل : قد حرم الله عليهم أكل مال اليتيم وحده ومع أموالهم فلم ورد النهي عن أكله معها ؟
أجيب : بأنهم كانوا يفعلون كذلك فأنكر عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم ؛ ولأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال، وهم مع ذلك يطمعون فيها، كان
٣٢٢
القبح أبلغ والذم أحق ﴿إنه﴾ أي : أكلها ﴿كان حوباً﴾ أي : ذنباً ﴿كبيراً﴾ أي : عظيماً ولما نزلت هذه الآية في اليتامى، وما كان في أكل أموالهم من الحوب الكبير خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك العدل في حقوق اليتامى، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست ولا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهنّ نزل.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢٠
وإن خفتم﴾
أي : خشيتم ﴿أن لا تقسطوا﴾ أي : تعدلوا ﴿في اليتامى﴾ فتحرّجتم من أمورهم فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات ﴿فانكحوا ما طاب﴾ أي : حلّ ﴿لكم من النساء﴾ ؛ لأنّ منهنّ ما حرم كاللاتي في آية التحريم ﴿مثنى وثلاث ورباع﴾ أي : تزوّجوا اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ؛ لأنّ من تحرّج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب ؛ لأنه إنما وجب أن يتحرّج من الذنب ويتاب عنه لقبحه، والقبح قائم في كل ذنب وإنما عبر عنهنّ بما ومن يعقل إنما يعبر عنه بمن ذاهباً إلى الصفة ؛ لأنه إنما يفرق بين من وما في الذوات لا في الصفات أو أجراهنّ مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهنّ، وقيل : كانوا لا يتحرّجون من الزنا وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم الحوب في حق اليتامى، فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تجولوا حول المحرّمات، وقيل : كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال فيتزوّجها ضناً ـ أي : بخلاً ـ بها فربما يجتمع عنده منهنّ عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ.
فإن قيل : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع حتى إنّ بعض الرافضة قال : للشخص أن يتزوّج بثمانية عشر ؟
أجيب : بأنّ الخطاب للجمع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ولو أفردت لم يكن له معنى.
فإن قيل : لم جاء العطف بالواو دون أو حتى قال بعض الرافضة : إنّ له أن يتزوج بتسعة ؟
أجيب : بأنه لو عطف بأو لذهب معنى تجويز أنواع الجمع بين أنواع القسمة التي دلت عليها الواو ﴿فإن خفتم أن لا تعدلوا﴾ بين هذه الأعداد أيضاً بالقسم والنفقة ﴿فواحدة﴾ أي : فانكحوا واحدة وذروا الجمع ﴿أو ما ملكت أيمانكم﴾ أي : اقتصروا على ذلك سواء بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري ؛ لخفة مؤنتهنّ وعدم وجوب القسم بينهنّ.
تنبيه : هذا في حق الحر أما من فيه رق فلا يتزوّج أكثر من ثنتين بإجماع الصحابة وقد يعرض للحر عوارض لا يزاد فيها على واحدة كجنون أو سفه ﴿ذلك﴾ أي : نكاح الأربعة فقط أو الواحدة أو التسري ﴿أدنى﴾ أقرب إلى ﴿أن لا تعولوا﴾ أي : تجوروا، يقال : عال الحاكم في حكمه إذا جار.
وروي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له : أتعول علي وقد ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله ﷺ "أن لا تعولوا، أن لا تجوروا"، وحكي عن الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنه فسر "أن لا تعولوا" بأن لا تكثروا عيالكم قال البغويّ : وما قاله أحد إنما يقال : من كثرة العيال أعال يعيل إعالة إذا كثرت عياله، وقال الزمخشريّ : ووجهه أن يجعل من قولك عال الرجل
٣٢٣
عياله يعولهم كقولك : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ؛ لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، ثم قال : وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : لا تظننّ بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً. وكان الشافعيّ رحمه الله تعالى أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا اه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢٠


الصفحة التالية
Icon