﴿تلك﴾ أي : الأحكام المذكورة في أمر اليتامى والوصايا والمواريث ﴿حدود الله﴾ أي : شرائعه التي حدّها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدّوها ﴿ومن يطع الله ورسوله﴾ فيما حكما به ﴿يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ وقوله تعالى :﴿خالدين فيها﴾ حال مقدرة كقولك : مررت برجل معه صقر صائداً به غداً ﴿وذلك الفوز العظيم﴾.
﴿ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده﴾ أي : الله ﴿يدخله ناراً﴾ وقوله تعالى :﴿خالداً فيها﴾ حال كما مرّ، ولا يجوز أن يكون (خالدين) و(خالداً) صفتين لجنات ونار ؛ لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بدّ من الضمير وهو قولك : خالدين هم فيها وخالداً هو فيها هذا على مذهب البصريين، أما على مذهب الكوفيين فهو جائز عندهم عند أمن اللبس كما هنا، وهو الراجح كما جرى عليه ابن مالك وغيره ﴿وله عذاب مهين﴾ أي : ذو إهانة، وروعي في الضمائر في الآيتين لفظ من وفي خالدين معناها. وقرأ نافع وابن عامر (ندخله جنات) و(ندخله ناراً) بالنون فيهما على الالتفات، والباقون بالياء.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٣٠
﴿واللاتي يأتين الفاحشة﴾ أي : الزنا ﴿من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم﴾ أي : من رجال المسلمين، وهذا خطاب للحكام أي : فاطلبوا عليهنّ أربعة من الشهود، وفيه بيان أنّ الزنا لا يثبت إلا بأربعة من الشهود ﴿فإن شهدوا﴾ عليهنّ بها ﴿فأمسكوهنّ﴾ أي : احبسوهنّ ﴿في البيوت﴾
٣٣١
واجعلوها سجناً لهنّ وامنعوهنّ عن مخالطة الناس، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بضمّ الباء والباقون بكسرها ﴿حتى يتوفاهنّ الموت﴾ أي : ملائكته ﴿أو﴾ إلى أن ﴿يجعل الله لهنّ سبيلاً﴾ أي : طريقاً إلى الخروج منها أمروا بذلك أوّل الإسلام، ثم جعل لهنّ سبيلاً بجلد البكر مئة وتغريبها عاماً ورجم المحصنة، وفي الحديث، لما بين الحدّ قال :"خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلاً". رواه مسلم ﴿واللذان﴾ أي : الزاني والزانية، وقرأ ابن كثير بتشديد النون والباقون بالتخفيف ﴿يأتيانها﴾ أي : فاحشة الزنا ﴿منكم﴾ أي : الرجال ﴿فآذوهما﴾ بالسب والضرب بالنعال ﴿فإن تابا﴾ أي : منها ﴿وأصلحا﴾ أي : العمل ﴿فأعرضوا عنهما﴾ ولا تؤذوهما ﴿إنّ الله كان توّاباً﴾ على من تاب ﴿رحيماً﴾ به، وهو علة الأمر بالإعراض وترك المذمة وهذا منسوخ بالحدّ.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٣١
روى ابن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما أخبراه أن رجلين اختصما إلى رسول الله ﷺ فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، فقال الآخر وكان أفقههما : أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم فقال : إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أنّ على ابني الرجم فافتديت منه بمئة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مئة وتغريب سنة وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله ﷺ "والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فردّ عليك" وجلد ابنه مئة وغرّبه عاماً. أي : لأنه كان غير محصن وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها.
وروى ابن عباس عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إنّ الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ورعيناها، رجم رسول الله ﷺ ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو الاعتراف. وجملة حد الزنا أنّ الزاني إذا كان محصناً وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف : العقل والبلوغ والحرّية والإصابة بالنكاح الصحيح، فحدّه الرجم مسلماً كان أو ذميّاً، وعند أبي حنيفة أنّ الإسلام من شرائط الإحصان فلا يرجم عنده الذميّ، ويردّه ما صح عن رسول الله ﷺ "أنه رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا" وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نظر إن كان غير بالغ أو مجنوناً فلا حد عليه وإن كان حرّاً عاقلاً بالغاً غير أنه لم يصب بنكاح صحيح فعليه جلد مئة وتغريب عام وإن كان رقيقاً فعليه جلد خمسين وتغريب نصف
٣٣٢
عام. ومثل الزنا اللواط عند الشافعيّ رضي الله تعالى عنه لكن المفعول به لا رجم عليه وإن كان محصناً بل يجلد ويغرّب، وقيل : نزلت آية ﴿واللاتي يأتين الفاحشة﴾ في المساحقات وآية ﴿واللذان يأتيانها منكم﴾ في اللواطين.


الصفحة التالية
Icon