تنبيه : احتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي نحو :﴿إن الذين كفروا﴾ (البقرة، ٦) ﴿إنا نحن نزلنا الذكر﴾ (الحجر، ٩) ﴿إنا أرسلنا نوحاً﴾ (نوح، ١) على حدوث القرآن لاستدعاء ما جاء فيه بلفظ الماضي سابقية المخبر عنه والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بغيره فأجاب أهل السنة : بأن ما جاء فيه بلفظ الماضي مقتضى تعلق الحكم بالخبر عنه وحدوث مقتضى التعلق لا يستلزم حدوث المخبر عنه فلا يستلزم حدوث كلام الله كما في عمله تعالى فإنه قديم ومقتضى تعلقه بغيره حادث والحاصل أنه لا يلزم من حدوث مقتضى التعلق وهو الكلام اللفظيّ حدوث الكلام النفسيّ. ﴿سواء عليهم﴾ أي متساوٍ لديهم ﴿أأنذرتهم أم لم تنذرهم﴾ أي : خوّفتهم وحذرتهم أم لا والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير فكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشدّ تأثيراً في النفس من حيث أن دفع الضرر أهمّ من جلب النفع فإذا لم ينفع فيهم الإنذار كانت البشارة بعدم النفع أولى ﴿لا يؤمنون﴾ بما جئت به وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله تعالى كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما فلا تطمع في إيمانهم، واحتجّ بهذه الآية من جوّز تكليف ما لا يطاق فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان فلو آمنوا وقع الخلف في كلامه تعالى وهو محال والحق أن التكليف بالممتنع لذاته جائز عقلاً غير واقع بخلاف التكليف بالممتنع لغيره كالذي تعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه فإنه جائز وواقع اتفاقاً.
تنبيه : هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمة فقالون وأبو عمرو يسهلان الثانية ويدخلان بينهما ألفاً وكذا ورش وابن كثير إلا أنهما لم يدخلا ألفاً بينهما ولورش وجه آخر وهو أن يبدل الثانية حرف مدّ، وهشام له وجهان : تسهيل الهمزة الثانية وتحقيقها مع إدخال ألف بينهما والباقون بالتحقيق والقصر وجميع القرّاء يحققون الأولى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
٢٩
ثم ذكر سبب تركهم الإيمان بقوله تعالى :﴿ختم الله على قلوبهم﴾ أي : طبع واستوثق فلا يدخلها إيمان ولا خير، والختم : الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له ﴿وعلى سمعهم﴾ أي : مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق، وقوله تعالى :﴿وعلى أبصارهم﴾ أي : أعينهم ﴿غشاوة﴾ مبتدأ وخبر أي : على أعينهم غطاءً من عند الله تعالى فلا يبصرون الحق وعبر الله تعالى عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى :﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم﴾ (النحل، ١٠٨) وبالإغفال في قوله تعالى :﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾ (الكهف، ٢٨) وبالإقساء في قوله تعالى :﴿وجعلنا قلوبهم قاسية﴾ (المائدة، ١٣) وهذه الهيئة من حيث أنّ الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه تعالى ومن حيث أنها مسببة عما اقترفوه بدليل قوله تعالى :﴿بل طبع الله عليها بكفرهم﴾ (النساء، ١٥٥) وقوله تعالى :﴿ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم﴾ (المنافقون، ٣) وردت الآية مظهرة عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم.
فإن قيل : لم وحد السمع دون القلوب والأبصار ؟
أجيب : بأنه على حذف مضاف مثل وعلى حواس سمعهم كمواضعه كما مرّ تقديره أو باعتبار الأصل فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تثنى ولا تجمع والأبصار جمع بصر وهو إدراك العين وقد يطلق مجازاً على القوّة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع، قال البيضاويّ : ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشدّ مناسبة للختم والتغطية وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق القلب ويراد به العقل والمعرفة، كما قال الله تعالى :﴿إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب﴾ (ق، ٣٧) أي : عقل، وأمال أبو عمرو ألف أبصارهم وكذا كل ألف بعدها راء مكسورة متطرّفة وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير ﴿ولهم عذاب عظيم﴾ أي : قوي دائم في الآخرة وهذا وعيد وبيان لما يستحقونه، والعذاب كلّ ما يعيي الانسان ويشق عليه، وقال الخليل : العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش وإنما وصف العذاب بالعظيم دون الكبير لأن العظيم فوقه، لأنّ العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير، وإذا كان الحقير مقابلاً للعظيم والصغير، للكبير كان العظيم فوق الكبير لأنّ العظيم لا يكون حقيراً والكبير قد يكون حقيراً كما أنّ الصغير قد يكون عظيماً، وتنكير الغشاوة والعذاب للتنويع لأنهما لما قرنا بالختم على القلوب كان المعنى نوعاً عظيماً منه أي : على أبصارهم غشاوة ليس وما يتعارفه الناس وهو التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلا الله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩