فإن قيل : المطرد في وصف جمع القلة لمن يعقل أن يكون بالألف والتاء فيقال مطهرات، أجيب : بأنه عدل عن ذلك إلى الوحدة لإفهام أنهنّ لشدّة الموافقة في الطهر كذات واحدة ﴿وندخلهم﴾ أي : فيها ﴿ظلاً﴾ عظيماً وأكده تعالى بقوله :﴿ظليلاً﴾ أي : متصلاً لا فرج فيه منبسطاً لا ضيق معه دائماً لا تصيبه الشمس يوماً ما لا حرّ فيه ولا برد بل هو في غاية الاعتدال، وهو ظل الجنة، جعلنا الله تعالى ومن يحبنا ونحبه من أهلها السابقين مع النبيين والصدّيقين. وقوله تعالى :
﴿إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾ خطاب يعم المكلفين، والأمانات وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة وصعد السطح فطلب رسول الله ﷺ المفتاح ليدخلها فأبى وقال : لو علمت أنه رسول لم أمنعه المفتاح فلوى عليّ رضي الله تعالى عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل رسول الله ﷺ البيت وصلى فيه ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله ﷺ علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر ففعل ذلك وقال : هاك خالدة تالدة، فعجب من ذلك وقال عثمان : أكرهت وأذيت، ثم جئت ترفق ؟
فقال : قد أنزل الله في شأنك قرآناً، وقرأ عليه فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فهبط جبريل وأخبر رسول الله ﷺ أن السدانة تكون في أولاد عثمان أبداً فلما مات عثمان دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة في أيديهم إلى اليوم وإلى يوم القيامة، فالآية، وإن وردت في سبب خاص فعمومها معتبر بقرينة الجمع ﴿وإذا حكمتم بين الناس﴾ أي : قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم ﴿أن تحكموا بالعدل﴾ أي : بالسواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له فإنّ ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ ﷺ قال :"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل
٣٥٩
إلا ظله : إمام عادل"، الحديث.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٥٧
وروي :"إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدّهم عذاباً إمام جائر". ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله :﴿إنّ الله نعما﴾ فيه إدغام ميم نعم في ما النكرة الموصوفة أي : نعم شيئاً ﴿يعظكم به﴾ وهو تأدية الأمانة والحكم بالعدل، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون، وكسرها الباقون، واختلس كسر العين قالون وأبو عمرو وشعبة ﴿إنّ الله كان﴾ أي : ولم يزل ولا يزال ﴿سميعاً﴾ لكل ما يقال ﴿بصيراً﴾ بكلّ ما يفعل.
﴿يأيها الذين آمنوا﴾ أي : أقروا بالإيمان، وبدأ بما هو العمدة في الحمل على ذلك فقال :﴿أطيعوا الله﴾ أي : فيما أمركم به ﴿وأطيعوا الرسول﴾ أي : فيما بينه لكم ﴿و﴾ أطيعوا ﴿أولي﴾ أي : أصحاب ﴿الأمر﴾ أي : الولاة ﴿منكم﴾ أي : إذا أمروكم بإطاعة الله ورسوله، وسواء كان ذلك في عهد رسول الله ﷺ أم بعده، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية.
روي أنه ﷺ قال :"السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
وروي أنه ﷺ خطب في حجة الوداع فقال :"اتقوا الله وصلوا رحمكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم". وقيل :"المراد بأولي الأمر أبو بكر وعمر لقوله ﷺ "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" وقال عطاء هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان بدليل قوله تعالى :﴿والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان﴾ (التوبة، ١٠٠)
روي أنه ﷺ قال :"مثل أصحابي وأمّتي كالملح في الطعام ولا يصلح الطعام إلا بالملح"، قال الحسن : فقد ذهب ملحنا فكيف نصلح وقيل : المراد علماء الشرع لقوله تعالى :﴿ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستبطونه منهم﴾ (النساء، ٨٣)
﴿فإن تنازعتم﴾ أي : اختلفتم ﴿في شيء فردوه إلى الله﴾ أي : كتابه ﴿والرسول﴾ أي : مدّة حياته وبعد وفاته إلى سنته أي : اكشفوا عليه منهما والردّ إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما، فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد. وقيل : الرد إلى الله والرسول أن يقول لما لا يعلم : الله ورسوله أعلم ﴿إن كنتم تؤمنون با واليوم الآخر﴾ أي : فإن الإيمان يوجب هذا ﴿ذلك﴾ أي : من الردّ إليهما ﴿خير﴾ لكم من التنازع والقول
٣٦٠
بالرأي ﴿وأحسن تأويلاً﴾ أي : تأويلكم بلا رد أو عاقبة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٥٧


الصفحة التالية
Icon