ونزل في اليهود لما قالوا حين قدم النبيّ ﷺ المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه ﴿وإن تصبهم﴾ أي : اليهود ﴿حسنة﴾ أي : خصب ورخص في السعر ﴿يقولون هذه من عند الله﴾ لنا لا مدخل لك فيها ﴿وإن تصبهم سيئة﴾ أي : جدب وغلاء في الأسعار ﴿يقولون هذه من عندك﴾ أي : من شؤم محمد وأصحابه وقيل : المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر، والسيئة القتل والهزيمة يوم أحد، يقولون : هذه من عندك أي : أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا يكون هذا قول المنافقين ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿كل﴾ أي : الحسنة والسيئة ﴿من عند الله﴾ ثم عيرهم بالجهل فقال :﴿فما لهؤلاء القوم﴾ أي : اليهود أو المنافقين ﴿لا يكادون يفقهون﴾ أي : لا يقاربون أن يفهموا ﴿حديثاً﴾ يوعظون به وهو القرآن ؛ لأنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أنّ الكل من عند الله، أو حديثاً ما يلقى إليهم كبهائم لا أفهام لهم، وما استفهام تعجب من فرط جهلهم ونفي مقاربة الفعل أشدّ من نفيه.
﴿ما أصابك﴾ أي : أيها الإنسان ﴿من حسنة﴾ أي : نعمة دنيوية أو أخروية ﴿فمن الله﴾ أتتك تفضلاً منه والإيمان أحسن المحسنات، قال الإمام : إنهم اتفقوا على أنّ قوله :﴿ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله﴾ (فصلت، ٣٣)
المراد به كلمة الشهادة ﴿وما أصابك من سيئة﴾ أي : بلية وأمر تكرهه ﴿فمن نفسك﴾ أتتك حيث ارتكبت ما يستوجبها من الذنوب.
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى :﴿قل كل من عند الله﴾ وبين قوله ﴿فمن نفسك﴾ ؟
أجيب : بأنّ قوله :﴿قل كل من عند الله﴾ أي : الخصب والجذب والنصر والهزيمة كلها من عند الله وقوله :﴿فمن نفسك﴾ أي : ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما قال تعالى :﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم﴾ (الشورى، ٣٠)، وقيل : إنّ هذه الآية متصلة بما قبلها، والقول فيه مضمر تقديره : فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً يقولون :﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك قل كل من عند الله﴾ ﴿وأرسلناك﴾ يا محمد ﴿للناس﴾ أي : كافة وقوله تعالى :﴿رسولاً﴾ حال قصد بها التأكيد ﴿وكفى با شهيداً﴾ على إرسالك بنصب المعجزات، ولما قال النبيّ ﷺ "من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله" فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلا أن تتخذوه رباً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم" نزل.
٣٦٧
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٦٥
﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ لأنه في الحقيقة مبلغ والآمر هو الله تعالى ﴿ومن تولى﴾ أي : أعرض عن طاعتك فلا يهمنك ﴿فما أرسلناك﴾ يا محمد ﴿عليهم حفيظاً﴾ أي : حافظاً لأعمالهم وتحاسبهم عليها إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب فنجازيهم، وهذا قبل الأمر بالقتال.
﴿ويقولون﴾ أي : المنافقون إذا أمرتهم بشيء من أمرنا وهم بحضرتك ﴿طاعة﴾ أي : أمرنا وشأننا طاعة أي : نطيعك فيما تأمرنا به ﴿فإذا برزوا﴾ أي : خرجوا ﴿من عندك بيت طائفة منهم﴾ أي : أضمرت ﴿غير الذي تقول﴾ لك في حضورك من الطاعة أي : عصتك، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الطاء فإنها عندهما ساكنة أي : التاء فإذا سكنت التاء قبل الطاء وجب إدغامها فيها، والباقون بالإظهار فإن التاء عندهم مفتوحة ﴿وا يكتب﴾ أي : يأمر بكتب ﴿ما يبيتون﴾ أي : ما يسرون من النفاق في صحائفهم ليجازوا عليها ﴿فأعرض عنهم﴾ أي : قلل المبالاة بهم ﴿وتوكل على الله﴾ أي : ثق به فإنه كافيك معرتهم وينتقم لك منهم ﴿وكفى با وكيلاً﴾ أي : مفوّضاً إليه.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٦٨
أفلا يتدبرون﴾
أي : يتأمّلون ﴿القرآن﴾ وما فيه من المعاني البديعة ﴿ولو كان من عند غير الله﴾ أي : ولو كان من كلام البشر كما زعم الكفار ﴿لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ أي : تناقضاً في معانيه وتبايناً في نظمه، فكان بعضه فصيحاً وبعضه ركيكاً وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل وتخلفاً عن الصدق في الإخبار عن الغيب بما كان وما يكون، أفلا يتفكرون فيه ؟
فيعرفون عدم التناقض فيه وصدق ما يخبرهم به إنه كلام الله ولأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف، والمراد من التقييد بالكثير المبالغة في إثبات الملازمة أي : لو كان من عند غير الله للزم أن يكون فيه اختلاف كثير فضلاً عن القليل لكنه من عند الله فليس فيه اختلاف لا كثير ولا قليل.
٣٦٨


الصفحة التالية
Icon