ومن يقتل مؤمناً متعمداً} بأن يقصد قتله بما يقتل غالباً عالماً بإيمانه ﴿فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه﴾ أي : أبعده من رحمته ﴿وأعدّ له عذاباً عظيماً﴾ في النار وهذا مخصوص بالمستحلّ له كما قاله عكرمة وغيره، ويؤيده أنّ الآية نزلت في نفيس بن ضبابة وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول الله ﷺ أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه، ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدّاً والمراد من الآية التغليظ كقوله تعالى :﴿و على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين﴾ (آل عمران، ٩٧)
تفسير من كفر بمن لم يحج، وكقوله ﷺ للمقداد :"لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك
٣٧٤
بمنزلته قبل أن تقول الكلمة التي قال" أو إنّ هذا جزاؤه إن جوزي ولا بدع في خلف الوعيد لقوله تعالى :﴿ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ (النساء، ٤٨)
أو المراد بالخلود المكث الطويل فإنّ الدلائل متظاهرة على أنّ عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم ولهذا لم يذكر في الآية أبداً، وما روي عن ابن عباس أنه قال :"لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمداً" كما رواه الشيخان أراد به التشديد كما قاله البيضاويّ إذ روي عنه خلافه رواه البيهقي في سننه، وبينت آية البقرة إن قاتل العمد يقتل به وإنّ عليه الدية إن عفي عنه وسبق قدرها وبينت السنة أنّ بين العمد والخطأ قتلاً يسمى شبه العمد وهو أن يقتله بما لا يقتل غالباً، فلا قصاص فيه بل فيه دية كالعمد في الصفة والخطأ في التأجيل والحمل وهو أي : العمد أولى بالكفارة من الخطأ.
﴿يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم﴾ أي : سافرتم للجهاد ﴿في سبيل الله فتبينوا﴾.
روي أنّ سرية لرسول الله ﷺ غزت أهل فدك فهربوا وبقي رجل يقال له : مرداس، لأنه كان على دين المسلمين فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب رسول الله ﷺ فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فلما سمع التكبير علم إنهم من أصحاب رسول الله ﷺ وكبر ونزل وهو يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه فنزلت، ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ وأخبروه فوجد رسول الله ﷺ من ذلك وجداً شديداً وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر فقال رسول الله ﷺ "قتلتموه إرادة ما معه" ثم قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية على أسامة بن زيد فقال : يا رسول الله استغفر لي فقال :"وكيف بلا إله إلا الله ؟
" قال أسامة : فما زال رسول الله ﷺ يكرّرها عليّ حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ، ثم إنّ رسول الله ﷺ استغفر لي ثلاث مرّات وقال : أعتق رقبة"، وقال عكرمة عن ابن عباس قال : مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله ﷺ ومعه غنم له فسلم عليهم قالوا : ما سلم عليكم إلا ليعوذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه وأتوا بها رسول الله ﷺ فنزلت.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٢
وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة وبالباء الموحدة مكان الياء المثناة تحت وبالتاء المثناة فوق مكان النون فهو من التثبت والباقون من البيان ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام﴾ أي : لمن حياكم بتحية الإسلام، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة بغير ألف بعد اللام من السلام أي : الاستسلام والانقياد والباقون بالألف ﴿لست مؤمناً﴾ وإنما فعلت ذلك متعوّذاً ﴿تبتغون عرض الحياة الدنيا﴾ أي : تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاد ﴿فعند الله مغانم كثيرة﴾ تغنيكم عن قتل مثله لماله ﴿كذلك كنتم من قبل﴾ أي : أوّل ما دخلتم في الإسلام تفوّهتم بكلمة الشهادة فحصنتم بها أموالكم ودماءكم من غير أن تعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم ﴿فمنّ الله عليكم﴾ أي : بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين ﴿فتبينوا﴾ أي : وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم ولا تبادروا إلى قتلهم ظناً إنهم دخلوا اتقاءً وخوفاً، فإن بقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل
٣٧٥
امرىء مسلم، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر بالتبيين وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم ﴿إنّ الله كان﴾ ولم يزل ﴿بما تعملون خبيراً﴾ أي : عالماً به وبالغرض منه فيجازيكم به فلا تتساهلوا في القتل واحتاطوا فيه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٢


الصفحة التالية
Icon