﴿ومن يعمل سوءاً﴾ أي : ذنباً يسوء به غيره كرمي طعمة اليهودي ﴿أو يظلم نفسه﴾ أي : يعمل ذنباً يختص به لا يتعدّاه، وقيل : المراد بالأوّل الصغيرة والثاني الكبيرة ﴿ثم يستغفر الله﴾ أي : يطلب من الله تعالى غفرانه بالتوبة بشروطها ﴿يجد الله غفوراً﴾ أي : محاء للزلات ﴿رحيماً﴾ أي : مبالغاً في إكرام من يقبل إليه كما في الحديث عن الله :"من تقرّب مني شبراً تقرّبت منه ذراعاً ومن تقرّب مني ذراعاً تقرّبت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"، وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه إنّ هذه الآية نسخت من ﴿يعمل سوأً يجز به﴾ (النساء، ١٢٣).
﴿ومن يكسب إثماً﴾ أي : ذنباً ﴿فإنما يكسبه على نفسه﴾ أي : لأنّ وباله راجع عليه إذ الله له بالمرصاد فهو مجازية عليه فلا يتعدّاه وباله قال تعالى :﴿وإن أسأتم فلها﴾ (الإسراء، ٧)
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٢
وكان الله عليماً﴾
بالغ العلم بدقيق ذلك وجليله فلا يترك شيئاً منه ﴿حكيماً﴾ في صنعه فلا يجازيه إلا بمقدار ذنبه.
﴿ومن يكسب خطيئة﴾ أي : ذنباً صغيراً أو ما لا عمد فيه ﴿أو إثماً﴾ أي : كبيرة أو ما كان
٣٨٣
عن عمد ﴿ثم يرم به بريئاً﴾ أي : ينسبه إلى من لم يعمله كما فعل طعمة باليهودي ﴿فقد احتمل﴾ أي : تحمل ﴿بهتاناً﴾ أي : خطر كذب ببهت المرمي به ﴿وإثماً﴾ أي : ذنباً كبيراً ﴿مبيناً﴾ أي : بيناً يكسبه بسبب رمي البريء.
﴿ولولا فضل الله عليك﴾ يا محمد ﴿ورحمته﴾ بالعصمة ﴿لهمت طائفة منهم﴾ أي : من قوم طعمة أي : هماً مؤثراً عندك ﴿أن يضلوك﴾ أي : عن القضاء بالحق مع علمهم بالحال بتلبيسهم عليك فلا ينافي ذلك أنهم قد هموا بذلك ؛ لأنّ الهم المؤثر لم يوجد ﴿وما يضلون إلا أنفسهم﴾ إذ وبال ذلك عليهم ﴿وما يضرونك من شيء﴾ فإنّ الله عصمك وما خطر ببالك كان اعتماداً منك على ظاهر الأمر لا ميلاً في الحكم.
تنبيه :(من شيء) في موضع نصب على المصدر أي : شيئاً من الضر فمن مزيدة ﴿وأنزل الله عليك الكتاب﴾ أي : القرآن ﴿والحكمة﴾ أي : السنة فإنها ليست قرآناً يتلى وفسرت أيضاً بأنها علم الشرائع وكل كلام وافق الحق ﴿وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ أي : من المشكلات وغيرها غيباً وشهادة من أحوال الدين والدنيا ﴿وكان فضل الله عليك عظيماً﴾ أي : بهذا وبغيره من أمور لا تدخل تحت الحصر، وفي هذا دليل على أن العلم من أشرف الفضائل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٢
﴿لا خير في كثير من نجواهم﴾ أي : الناس قوم طعمة فإنهم ناجوا النبيّ ﷺ في الدفع عنه وكذا غيرهم ﴿إلا﴾ نجوى ﴿من أمر بصدقة﴾ واجبة أو مندوبة ﴿أو معروف﴾ أي : عمل بر، وقيل : المراد بالصدقة الواجبة، وبالمعروف صدقة التطوّع ﴿أو إصلاح بين الناس﴾ وسواء إصلاح ذات البين وغيرهم قال ﷺ "كلام ابن آدم كله عليه لا لهُ إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو
٣٨٤
ذكر الله"، وسمع سفيان رجلاً يقول : ما أشدّ هذا الحديث فقال : ألم تسمع الله يقول :﴿لا خير في كثير من نجواهم﴾ فهو هذا بعينه أو ما سمعته يقول :﴿والعصر إن الإنسان لفي خسر﴾ فهو هذا بعينه.
وروي أنه ﷺ قال :"ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ؟
" قلنا : بلى يا رسول الله قال :"إصلاح ذات البين، وإفساد ذات البين هي الحالقة".
وروي أنه ﷺ قال "ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال : خيراً أو أثنى خيراً" ﴿ومن يفعل ذلك﴾ أي : هذا المذكور ﴿ابتغاء﴾ أي : طلب ﴿مرضاة الله﴾ أي : لا غيره من أمور الدنيا ؛ لأنّ الأعمال بالنيات ﴿فسوف يؤتيه﴾ أي : الله في الآخرة بوعد لا خلف فيه ﴿أجراً عظيماً﴾ هو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم، وفي هذه الآية دلالة على أنّ المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال الباطن في إخلاص النية وتصفية القلب من الالتفات إلى غرض دنيوي، وقرأ أبو عمرو وحمزة (يؤتيه) بالياء، والباقون بالنون.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٤
ومن يشاقق الرسول﴾
أي : يخالفه فيما جاء به مأخوذ من الشق، فإنّ كلاً من المتخالفين في شق غير شق الآخر ﴿من بعدما تبين﴾ أي : ظهر ﴿له الهدى﴾ أي : الدليل الذي هو سببه ﴿ويتبع﴾ طريقاً ﴿غير سبيل المؤمنين﴾ أي : طريقهم الذي هم عليه من الدين بأن يتبع غير دين الإسلام ﴿نوله ما تولى﴾ أي : نجعله والياً لما تولاه بأن نخلي بينه وبينه في الدنيا ﴿ونصله﴾ أي : ندخله في الآخرة ﴿جهنم﴾ يحترق فيها ﴿وساءت مصيراً﴾ أي : مرجعاً هي، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة (نوله) و(نصله) بسكون الهاء، واختلس كسرة الهاء قالون ولهشام وجهان : الإختلاس كقالون، وإشباع الحركة كباقي القرّاء.
فإن قيل : ما الحكمة في فك الإدغام في قوله تعالى :﴿ومن يشاقق الرسول﴾ والإدغام في سورة الحشر في قوله :﴿ومن يشاق الله﴾ (الحشر، ٤)


الصفحة التالية
Icon