وإذا قيل لهم} أي : لهؤلاء فهو عطف تفسير على يكذبون فمحله نصب لكونه معطوفاً على خبر كان، فيكون جزءاً من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم، أو على يقول، فلا محلّ له من الإعراب لكونه معطوفاً على صلة من فلا يكون جزءاً من السبب، والقائل هو الله تعالى أو رسوله ﷺ أو بعض المؤمنين، ﴿لا تفسدوا في الأرض﴾ بالكفر والتعويق عن الإيمان، والفساد خروج الشيء عن الاعتدال، والصلاح ضدّه، والفساد يعمّ كل ضارّ، والصلاح يعمّ كل نافع، وكان من إفسادهم في الأرض إثارة الحروب والفتن بمخادعة المسلمين، ومعاونة الكفار المتمحض كفرهم على المسلمين فإن ما ذكر يؤدّي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث، ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإنّ الإخلال بالشرائع والإعراض عنها وما يوجب القتل والاختلاط ويخل بنظام العالم لا أن ذلك إفساد لأن الإفساد جعل الشيء فاسداً وصنيعهم لم يكن كذلك، فقوله تعالى :﴿لا تفسدوا في الأرض﴾ مجاز باعتبار المآل أي : لا تفعلوا ما يؤدّي إلى الفساد وليس معنى الإفساد هنا الإتيان بالفساد ليصح حمل الكلام على الحقيقة، نبه على ذلك السعد التفتازاني ﴿قالوا إنما نحن مصلحون﴾ جواب لإذا ورد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك فإن شأننا ليس إلا الإصلاح وإن حالتنا متمحضة عن شوائب الفساد لأن إنما تفيد قصر ما دخله على ما بعده مثل إنما زيد منطلق وإنما ينطلق زيد، وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال تعالى :﴿أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً﴾ (فاطر، ٨).
قال الله تعالى يردّ عليهم أبلغ ردّ :﴿ألا إنهم هم المفسدون﴾ أي : بما ذكر ﴿ولكن لا يشعرون﴾ أي : لا يفطنون بمعنى لا يعلمون أنهم هم المفسدون بذلك أي : لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح، وقيل : لا يعلمون ما أعدّ الله لهم من العذاب ووجه الأبلغية في ذلك تصديره بألا المنبهة على تحقيق ما بعدها فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على
٣٣
النفي أفادت تحقيقاً وبأنّ المقرّرة للنسبة وتعريف الخبر وتوسط ضمير الفصل والاستدراك بلا يشعرون.
﴿وإذا قيل لهم آمنوا﴾ هذا من تمام النصح والإرشاد فإنّ كمال الإيمان بمجموع أمرين : الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله : لا تفسدوا والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله :﴿آمنوا﴾. ﴿كما آمن الناس﴾ أي : كإيمان الناس الكاملين في الإنسانية الموافق باطنهم فيه لظاهرهم العاملين بقضية العقل، فاللام في الناس للجنس فإنّ اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقاً يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه، أو للعهد، والمراد به الرسول ومن معه، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب. وقرأ هشام والكسائي : قيل، بإشمام القاف وهو أن تضم القاف قبل الباء، ولورش في الهمزة من آمنوا وآمن المدّ والتوسط والقصر ﴿قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء﴾ أي : الجهال، فاللام في السفهاء للعهد وهم من تقدّم، أو لجنس السفهاء بأسرهم وإنما سفهوهم لاعتقاد فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم فإنّ أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢
قال الله تعالى رداً عليهم أبلغ رد :﴿ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون﴾ أنهم سفهاء بما فعلوه من إبطان غير ما أظهروه، ووجه الأبلغية في تجهيلهم أنّ الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر.
فإن قيل : كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟
أجيب : بأنّ هذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله سبحانه نبيه ﷺ والمؤمنين بذلك والسفه خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل والعلم يقابله.
فإن قيل : لم عبر في هذه الآية بلا يعلمون وفي التي قبلها بلا يشعرون ؟
أجيب : بأنّ التعبير بلا يعلمون أكثر مطابقة لذكر السفه لأن السفه جهل فطابقه العلم ولأنّ أمر الإيمان أخروي يحتاج إلى دقة نظر، فعبر في الآية التي اشتملت عليه بلا يعلمون، وأمر البغي والفساد دنيوي فهو كالمحسوس لا يحتاج إلى دقة نظر، فعبر في الآية التي اشتملت عليه بلا يشعرون، ويشعر مضارع شعر، يقال : شعرت كذا، أي : حسست به أو أدركته، أي : فطنت له، وقد استعمل بالمعنى الأوّل في قوله :﴿وما يشعرون﴾ وفي الثاني بقوله :﴿لا يشعرون﴾ كما يعلم مما به قررته في الآيتين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي : السفهاء ألا، بتحقيق الهمزتين، وكذا كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا، والباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وبإبدال الثانية واواً خالصة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢
٣٤