﴿الذين﴾ إمّا بدل من الذين قبله، وإمّا صفة للمنافقين، وإمّا نصب على الذم منهم ﴿يتربصون﴾ أي : ينتظرون وقوع أمر ﴿بكم فإن كان لكم فتح من الله﴾ أي : ظفر وغنيمة ﴿قالوا﴾ لكم ﴿ألم نكن معكم﴾ أي : في الدين والجهاد فاجعلوا لنا نصيباً من الغنيمة ﴿وإن كان للكافرين نصيب﴾ أي : من الظفر، فإنّ الحرب سجال، وعبر بنصيب تحقيراً لظفرهم بالنسبة لما حصل للمسلمين من الفتح ﴿قالوا﴾ لهم ﴿ألم تستحوذ﴾ أي : نستول ﴿عليكم﴾ ونقدر على أخذكم وقتلكم فأبقينا عليكم ﴿ونمنعكم من المؤمنين﴾ أي : من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرعبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد لتصديقهم لنا لإظهارنا الإيمان، ومراد المنافقين بذلك إظهار المنة على الكافرين ﴿فا يحكم بينكم﴾ وبينهم ﴿يوم القيامة﴾ بأن يدخلكم الجنة ويدخلهم النار ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً﴾ أي : طريقاً بالاستئصال، واحتج أصحابنا بهذه الآية عدلى فساد شراء الكافر العبد المسلم.
٣٩٣
﴿إن المنافقين يخادعون الله﴾ أي : بإظهارهم خلاف ما يبطنونه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامهم الدنيوية ﴿وهو خادعهم﴾ أي : مجازيهم على خداعهم فيفضحهم في الدنيا باطلاع نبيه على ما أبطنوه ويعاقبهم في الآخرة ﴿وإذا قاموا إلى الصلاة﴾ مع المؤمنين ﴿قاموا كسالى﴾ أي : متثاقلين كالمكرهين على الفعل ﴿يراؤن الناس﴾ بصلاتهم ليظنوهم مؤمنين ﴿ولا يذكرون الله﴾ أي : ولا يصلون ﴿إلا قليلاً﴾ أي : حين يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم ولا يصلون غائبين قط عن عيون الناس وما يجهرون به أيضاً إلا قليلاً ؛ لأنهم ما وجدوا مندوحة عن تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه ويجوز أن يراد بالقلة العدم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٩٣
فإن قيل : أما معنى المراآة وهي مفاعلة من الرؤية ؟
أجيب : بأنّ المرائي يريهم عمله وهم يرون استحسانه، وقوله تعالى :
﴿مذبذبين﴾ حال من واو يراؤن أي : مترددين ﴿بين ذلك﴾ أي : الكفر والإيمان ﴿لا﴾ منسوبين ﴿إلى هؤلاء﴾ أي : الكفار ﴿ولا إلى هؤلاء﴾ أي : المؤمنين ﴿ومن يضلل الله﴾ أي : يضله ﴿فلن تجد له سبيلاً﴾ أي : طريقاً إلى الهدى ونظيره قوله تعالى :﴿ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور﴾ (النور، ٤٠)
﴿يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين﴾ أي : المجاهرين بالكفر ﴿أولياء من دون المؤمنين﴾ فإنه صنيع المنافقين وديدنهم فلا تتشبهوا بهم ﴿أتريدون أن تجعلوا عليكم﴾ أي : بموالاتهم ﴿سلطاناً﴾ أي : دليلاً على كفركم باتباعهم غير سبيل المؤمنين ﴿مبيناً﴾ أي : واضحاً على نفاقكم.
﴿إنّ المنافقين في الدرك﴾ أي : البطن ﴿الأسفل من النار﴾ أي : لأنّ ذلك أخفى ما في النار وأستره وأخبثه كما أنّ كفرهم أخفى الكفر وأخبثه وأستره وسميت طبقات النار دركات ؛ لأنها متداركة متتابعة إلى أسفل كما إنّ الدرج متراقية إلى فوق.
فإن قيل : لم كان المنافق أشدّ عذاباً من الكافر ؟
أجيب : بأنِه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الراء والباقون بفتحها ﴿ولن تجد لهم نصيراً﴾ أي : مانعاً يمنعهم من عذاب الله تعالى فيخرجهم ﴿إلا الذين تابوا﴾ أي : رجعوا عما كانوا عليه من النفاق ﴿وأصلحوا﴾ أي : أعمالهم ﴿واعتصموا﴾ أي : وثقوا ﴿با وأخلصوا دينهم ﴾ من الرياء فلا يريدون بطاعتهم إلا وجهه تعالى ﴿فأولئك مع المؤمنين﴾ في الجنة ﴿وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً﴾ فيشاركونهم ويساهمونهم.
فإن قيل : من المنافق ؟
أجيب : بأنه في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به منافقاً فللتغليظ كقوله ﷺ "من ترك الصلاة متعمّداً فهو كافر" ومنه قوله ﷺ "ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وقيل لحذيفة رضي الله تعالى عنه : من المنافق ؟
قال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به، وقيل لابن عمر رضي الله تعالى عنهما : ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال : كنا نعده من النفاق.
فائدة : اتفق كتاب المصاحف على حذف الياء من ﴿يؤت الله﴾ ولا سبب لحذفها.
٣٩٤
﴿ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم﴾ نعماءه ﴿وآمنتم به﴾ أي : لينفي به غيظاً أو يدفع ضراً أو يستجلب به نفعاً، وهو الغنيّ المطلق المتعالي عن النفع والضرّ، والاستفهام بمعنى النفي أي : لا يعذبكم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٩٣
فإن قيل : لم قدم الشكر على الإيمان مع أنه لا ينفع مع عدم الإيمان ؟
أجيب : بأنّ الناظر يدرك النعمة أوّلاً فيشكر شكراً مبهماً فإذا انتهى إلى معرفة المنعم آمن به، ثم شكر شكراً مفصلاً، فكان الشكر متقدّماً على الإيمان، وكأنه أصل التكليف ومداره فيؤمن به، والشكر ضدّ الكفر، فالكفر ستر النعمة، والشكر إظهارها ﴿وكان الله شاكراً﴾ لأعمال المؤمنين بالإثابة يقبل اليسير ويعطي الجزيل ﴿عليماً﴾ بخلقه.


الصفحة التالية
Icon