فيظلم من الذين هادوا} وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وبكفرهم بآيات الله وبهتانهم على مريم، وقولهم :﴿إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم﴾ (النساء، ١٥٧)
﴿حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم﴾ أي : كان وقع إحلالها لهم في التوراة، ثم حرّمت عليهم وهي التي في قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر﴾ (الأنعام، ١٤٦)
الآية ﴿وبصدّهم﴾ أي : الناس ﴿عن سبيل الله﴾ أي : دينه، وقوله تعالى :﴿كثيراً﴾ صفة مصدر محذوف أي : صدّاً كثيراً بالإضلال عن الطريق، فمنعوا مستلذات تلك المآكل بما منعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان.
﴿وأخذهم الربا وقد﴾ أي : والحال إنهم قد ﴿نهوا عنه﴾ في التوراة، فكان محرماً عليهم كما هو محرّم علينا ؛ لأنه قبيح في نفسه مزر بصاحبه، وفي الآية دليل على أنّ النهي للتحريم ﴿وأكلهم أموال الناس بالباطل﴾ أي : من الرشا في الحكم والمآكل أي : التي كانوا يصيبونها من عوامهم عاقبناهم بأن حرمنا عليهم طيبات، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرّم عليهم شيء من الطيبات التي كانت حلالاً لهم قال تعالى :﴿ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون﴾ (الأنعام، ١٤٦)
﴿وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً﴾ أي : مؤلماً دون من تاب وآمن.
ولما بين سبحانه وتعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب بين ما لنيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقال :
﴿لكن الراسخون﴾ أي : الثابتون المتمكنون ﴿في العلم منهم﴾ أي : من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿والمؤمنون﴾ أي : من
٣٩٩
المهاجرين والأنصار ﴿يؤمنون بما أنزل إليك﴾ أي : القرآن ﴿وما أنزل من قبلك﴾ أي : من سائر الكتب المنزلة وقوله تعالى :﴿والمقيمين الصلاة﴾ نصب على المدح ؛ لأنّ الصلاة لما كانت أعظم دعائم الدين ولذلك كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر نصبت على المدح من بين هذه المرفوعات إظهاراً لفضلها.
وحكي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وأبان بن عثمان أنّ ذلك غلط من الكاتب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة، وكذلك قوله في سورة المائدة :﴿إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى﴾ وقوله تعالى :﴿إنّ هذان لساحران﴾ (طه، ٦٣)
قالا : ذلك خطأ من الكاتب، وقال عثمان : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له : ألا تغيره فقال : دعوه فإنه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وعامّة الصحابة وأهل العلم على إنه صحيح كما قدّمناه، وقيل : نصب بإضمار فعل تقديره : أعني المقيمين الصلاة، وقوله تعالى :﴿والمؤتون الزكاة والمؤمنون با واليوم الآخر﴾ رجوع إلى النسق الأوّل ﴿أولئك سنؤتيهم﴾ بوعد لا خلف فيه على جمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح ﴿أجراً عظيماً﴾ وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم، وقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٩٦
﴿إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده﴾ جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله ﷺ أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحي إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا، وبدأ بذكر نوح عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان أبا البشر مثل آدم عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى :﴿وجعلنا ذريته هم الباقين﴾ (الصافات، ٧٧)
؛ ولأنه أوّل نبيّ من أنبياء الشريعة وأول نذير على الشرك وأوّل من عذبت أمته لردهم دعوته، وأهلك أهل الأرض بدعائه، وكان أطول الأنبياء عمراً، وجعلت معجزته في نفسه ؛ لأنه عمر ألف سنة فلم ينقص له سن ولم يشب له شعرة ولم تنقص له قوّة ولم يصبر أحد على أذى قومه ما صبر هو على طول عمره ﴿و﴾ كما ﴿أوحينا إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق﴾ بني إبراهيم ﴿ويعقوب﴾ بن إسحق ﴿والأسباط﴾ أولاد يعقوب وظاهر هذا أنهم كلهم أنبياء وهو أحد قوليه، والقول الآخر : أن يوسف هو النبي فقط وعلى هذا فالمراد المجموع ﴿وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا﴾ أباه ﴿داود زبوراً﴾ قرأ حمزة بضم الزاي مصدر بمعنى مزبوراً أي : مكتوباً، والباقون بالنصب على إنه إسم للكتاب المؤتى، وكان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجلّ.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٠٠
كان داود يبرز إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور ويقوم معه علماء بني إسرائيل، فيقومون خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، ويقوم الجن خلف الناس الأعظم فالأعظم، والشياطين خلف الجن، وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه تعجباً لما يسمعن منه، والطير ترفرف على رؤوسهم، فلما قارف الذنب لم ير ذلك فقيل له : ذاك أنس الطاعة وهذا وحشة المعصية، قال السيوطي في شرح التنبيه : إنّ الزبور مئة وخمسون سورة ما بين قصار وطوال، والطويلة منها قدر ربع حزب، والقصيرة قدر سورة النصر اه.


الصفحة التالية
Icon