﴿لكل جعلنا منكم﴾ أيّها الأمم ﴿شرعة﴾ أي : ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية والشرعة هي الطريقة إلى الماء، شبّه بها الدّين لأنها موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية ﴿ومنهاجاً﴾ أي : طريقاً واضحاً في الدين ناسخاً لما قبله، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع وأمثاله مما يدل على أنا لسنا متعبدين بالشرائع المتقدّمة وأنّ كل رسول غير متعبد بشرع من قبله وهو محمول على الفروع وما دلّ على الاجتماع كآية شرع لكم من الدين محمول على الأصول.
﴿ولو شاء الله لجعلكم أمّة﴾ أي : جماعة ﴿واحدة﴾ أي : متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل ﴿ولكن﴾ لم يشأ ذلك بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة ﴿ليبلوكم﴾ أي : ليختبركم ﴿فيما آتاكم﴾ من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود المطيع منكم والعاصي ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ أي : ابتدروها انتهازاً للفرصة بغاية الجهد فقل : من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه، وقوله تعالى :﴿إلى الله مرجعكم جميعاً﴾ أي : بالبعث استئناف فيه تعليل للأمر بالاستباق، ووعد للمبادرين ووعيد للمقصرين ﴿فينبئكم﴾ أي : يخبركم ﴿بما كنتم فيه تختلفون﴾ أي : من أمر الدين ويجزي كلاً منكم بعمله. وقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٣٧
وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾
عطف على الكتاب أي : أنزلنا إليك الكتاب والحكم أو على الحق أي : أنزلناه بالحق وبأن أحكم، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون وأن احكم والباقون بضمها ﴿ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن﴾ أي : لئلا يفتنوك أي : يضلوك ويصرفوك ﴿عن بعض ما أنزل الله إليك﴾.
روي أنّ أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فقالوا : يا محمد قد
٤٣٨
عرفت أنّا أحبار اليهود وأنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله ﷺ فنزلت ﴿فإن تولوا﴾ أي : عن الحكم المنزل وأرادوا غيره ﴿فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم﴾ أي : بالعقوبة في الدنيا ﴿ببعض ذنوبهم﴾ أي : التي أتوها ومنها التولي ويجازيهم على جميعها في الآخرة ﴿وإنّ كثيراً من الناس﴾ أي : هم وغيرهم ﴿لفاسقون﴾ أي : خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات.
﴿أفحكم الجاهلية﴾ أي : خاصة مع إنّ أحكامها لا يرضى بها عاقل لكونها لم يدع إليها كتاب بل هي مجرّد أهواء وهم أهل الكتاب ﴿يبغون﴾ أي : يريدون بإعراضهم عن حكمك مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك وشهد كتابك المعجز عن معارضته من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق وهذا استفهام إنكاري، وقرأ ابن عامر بالتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وهو أدلّ على الغضب، والباقون بالياء على الغيبة. وقيل : نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا من رسول الله ﷺ أن يحكم بما كان يحكم به الجاهلية من التفاضل بين القتلى أي : بين ديّات بعضهم على بعض ﴿ومن﴾ أي : لا أحد ﴿أحسن من الله حكماً لقوم﴾ أي : عند قوم ﴿يوقنون﴾ به خصّوا بالذكر ؛ لأنهم الذين يتدبرون الأمور ويتخيلون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكماً من الله جلا وعلا.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٣٧
﴿يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء﴾ أي : توالونهم وتوادّونهم وتعاشرونهم معاشرة الأحباب وقوله تعالى :﴿بعضهم أولياء بعض﴾ فيه إيماء إلى علة النهي أي : فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين وإجماعهم على مضارتكم ﴿ومن يتولهم منكم﴾ أي : ومن والاهم منكم ﴿فإنه منهم﴾ أي : من جملتهم وهذا تشديد في وجوب مجانبتهم أو لأنّ الموالين كانوا منافقين ﴿إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ أي : الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار، ومن لم يرد الله هدايته لم يقدر أحد أن يهديه.
تنبيه : اختلف في سبب نزول هذه الآية فقال قوم : نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وذلك أنهما اختصما فقال عبادة : إنّ لي أولياء من اليهود كثيراً عددهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من موالاتهم ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله : لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال السدي : لما كانت وقعة أحد اشتدّت على طائفة من الناس وتخوّفوا أن تدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي آخذ منه أماناً إني أخاف أن تدال علينا اليهود وقال الآخر : أمّا أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشأم وآخذ منه أماناً فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال عكرمة : نزلت في أبي لبابة بن المنذر بعثه النبيّ ﷺ إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا : ماذا يصنع بنا إذا نزلنا فجعل إصبعه على حلقه يعني أنه الذبح أي : يقتلكم فنزلت
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٣٩


الصفحة التالية
Icon