قال البيضاوي : والموت زوال الحياة، زاد في "الطوالع" : عما من شأنه الحياة وفيه تساهل إذ يلزم منه أن يكون الجنين قبل حلول الحياة فيه ميتاً، والأظهر كما في "شرح المواقف" أن يقال : عدم الحياة عما اتصف بها بالفعل فبينهما تقابل العدم والملكة على التفسيرين، وقيل : عرض يضادّها فبينهما تقابل التضاد لقوله تعالى :﴿خلق الموت والحياة﴾ (الملك، ٢) فجعل الموت مخلوقاً والعدم لا يخلق وردّ بأنّ الخلق بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإعدام مقدّرة ولو سلم بأنه بمعنى الإيجاد فالمعنى خلق أسباب الموت والحياة وبذلك علم أنّ القول الأوّل هو المعتمد وكلام أئمة اللغة طافح به وحاصله أنّ الموت مفارقة الروح الجسد وما ورد في الأحاديث من أنه جسم ؛ حيث قيل في بعضها : إنه كبش، وفي بعضها : إنه على صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات فمؤوّل بأنه لم يقصد بالموت فيها حقيقته بل قصد أنه يصوّر بصورة كبش كما في خبر الشيخين وغيرهما "أنه يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار" إلخ... ﴿وا محيط بالكافرين﴾ علماً وقدرة فلا يفوتونه كما لا يفوت المحاط، به المحيط لا يخلصهم الخداع والحيل، وقيل : مهلكم دليله قوله تعالى :﴿إلا أن يحاط بكم﴾ (يوسف، ٦٦) أي : تهلكوا، والجملة اعتراضية لا محل لها، قال أبو حيان : لأنها دخلت بين هاتين الجملتين، وهما يجعلون أصابعهم ويكاد البرق وهما من قصة واحدة، ويميل ورش الألف بعد الكاف بين بين وكذا الكافرين حيث جاء، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالإمالة المحضة فيهما حيث جاء، والباقون بالفتح.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧
يكاد البرق﴾
يقرب لأن كاد من أفعال المقاربة وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لحصول سببه لكنه لم يوجد إما لفقد شرط أو لعروض مانع وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلاً مضارعاً تنبيهاً على أنه المقصود بالقرب ﴿يخطف أبصارهم﴾ يختلسها، والخطف : الأخذ بسرعة ﴿كلما أضاء
٣٨
لهم مشوا فيه﴾
أي : ضوئه ﴿وإذا أظلم عليهم قاموا﴾ أي : وقفوا متحيّرين فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات من صفاتها أنّ الساري لا يمكنه المشي فيها، ورعد من صفته أن يضم السامعون أصابعهم في آذانهم من هوله، وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدّة توقده، فهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه، فالمطر : القرآن، لأنه حياة القلوب كما أنّ المطر حياة الأبدان، والظلمات : ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك، والرعد : ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار، والبرق : ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة، والكافرون والمنافقون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن مخافة ميل القلب إليه ولإزعاج ما في القرآن من الحجج قلوبهم، وإنما قال الله تعالى مع الإضاءة : كلما ومع الإظلام : إذا، لأنهم حرّاس على المشي كلما صادفوا منه فرصة مما يحبون انتهزوها ولا كذلك التوقف فيما يكرهون. ومعنى قاموا : وقفوا، كما مرّ، ومنه قامت السوق إذا ركدت، أي : سكنت، ويقال : قامت السوق بمعنى : نفقت، فهو من الأضداد. ﴿ولو شاء الله لذهب بسمعهم﴾ بمعنى : أسماعهم ﴿وأبصارهم﴾ الظاهرة كما ذهب بالباطنة، أي : ولو شاء أن يذهب بسمعهم بشدّة صوت الرعد وأبصارهم بلمعان البرق لذهب بهما فحذف المفعول وهو أن يذهب لدلالة الجواب وهو لذهب عليه، ولقد تكاثر حذف المفعول في شاء وأراد إذا وقعا في حيز الشك كما هنا لدلالة الجواب على ذلك المحذوف حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب، كقول القائل :
*فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته ** عليك ولكن ساحة الصبر أوسع*
وأتى فيه بالمفعول لأنّ بكاء الدم مستغرب ونصب دماً لتضمنه معنى الصب ولو من حروف الشرط، قال البيضاوي : وظاهرها الدلالة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه. اه. وهذا مذهب ابن الحاجب، وأمّا مذهب الجمهور وهو الأصح فإنها في الأصل لانتفاء الثاني لانتفاء الأوّل، فمعنى لو جئتني أكرمتك أن انتفاء الاكرام لانتفاء المجيء، وقيل : إنها لمجرّد الربط كان ومن ثم قال التفتازاني أنّ لو هنا لمجرّد الشرط بمنزلة أن لا بمعناها الأصلي وفائدة هذه الجملة الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه وهو أنه تعالى أمهل المنافقين فيما هم فيه ليتمادوا في الغيّ والفساد ليكون عذابهم أشدّ وللتنبيه على أنّ تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى وأنّ وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته تعالى، وقوله تعالى :﴿إن الله على كل شيء﴾ أي : يشاؤه، ﴿قدير﴾ كالتصريح بما ذكر والتقرير له والشيء يختص بالموجود فلا يطلق على المعدوم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧


الصفحة التالية
Icon