فائدة : مريم من أزواج نبينا محمد ﷺ في الجنة. ولما بين سبحانه وتعالى أقصى ما لهما من الكمالات بين أنّ ذلك لا يوجب لهما الألوهية بقوله :﴿كانا يأكلان الطعام﴾ لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك، مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام فكيف يكون إلهاً، وخص الأكل بالذكر لأنه أصل الحاجات والإله لا يكون محتاجاً وقيل : هذا كناية عن الحدث لأنّ من أكل وشرب لا بد له من البول والغائط ومن كانت هذه صفته كيف يكون إلهاً ؟
ثم لما أوضح الله تعالى لهم الأدلة في أمرهما حتى ظهر كالشمس بعدهما عما ادّعوا فيهما اتبعه التعجب بقوله :﴿انظر﴾ متعجباً ﴿كيف نبين لهم الآيات﴾ على وحدانيتنا ﴿ثم انظر أنى﴾ أي : كيف ﴿يؤفكون﴾ أي : يصرفون عن الحق مع قيام البرهان.
فإن قيل : ما معنى التراخي في قوله تعالى :﴿ثم انظر﴾ ؟
أجيب : بأنّ معناه التفاوت بين العجبين أي : أنّ بياننا للآيات عجب وإعراضهم عنها أعجب.
﴿قل أتعبدون من دون الله﴾ أي : غيره يعني عليه السلام ﴿ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً﴾ أي : لا يستطيع أن يضرّكم بمثل ما يضرّ الله تعالى به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله به من صحة الأبدان والسعة والخصب وكل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبإقدار الله تعالى وتمكينه وكأنه لا يملك شيئاً وهذا دليل قاطع على أن أمر عيسى
٤٥٠
منافٍ للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً وصفة الرب تعالى أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٨
فإن قيل : إذا كان المراد السيد عيسى فلِمَ عبّر بما دون من مع أنّ المراد من يعقل ؟
أجيب : بأنه أتى بما نظر إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأساً وتنبيهاً على أنه من هذا الجنس ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية أو أن المراد كل ما عبد من دون الله تعالى سواء كان ممن يعقل أم لا ﴿وا هو السميع﴾ لأقوالكم ﴿العليم﴾ بأحوالكم فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر والاستفهام للإنكار.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٨
﴿قل يأهل الكتاب﴾ أي : عامّة ﴿لا تغلوا﴾ أي : تجاوزوا الحد ﴿في دينكم﴾ وقوله تعالى :﴿غير الحق﴾ صفة للمصدر أي : لا تغلوا في دينكم غلوّاً غير الحق أي : غلواً باطلاً ؛ لأنّ الغلو في الدين غلوان : حق وهو أن يجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون، وغلو باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة فيرفعوا عيسى عليه السلام إلى أن يدّعوا له الإلهية أو يضعوه ويرتابوا فيه، وقيل : الخطاب للنصارى خاصة.
﴿ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل﴾ في غلوهم وهم أسلافهما الذين قد ضلّوا قبل مبعث رسول الله ﷺ في شريعتهم ﴿وأضلوا كثيراً﴾ أي : من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى ظنّ حقاً ﴿وضلوا﴾ أي : بعد مبعث رسول الله ﷺ ﴿عن سواء السبيل﴾ أي : طريق الحق وهو الإسلام والسواء في الأصل الوسط والأهواء ههنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، قال أبو عبيدة : لم يذكر الهوى إلا في موضع الشر لا يقال : فلان يهوى الخير إنما يقال : يريد الخير ويحبه وقيل : سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هواي على هواك فقال : كل هوى ضلالة.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥١
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود﴾ أي : لعنهم الله في الزبور على لسان داود وإنّ أهل أيلة لمّا اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام : اللهمّ العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وخنازير وقوله تعالى ﴿وعيسى بن مريم﴾ عطف على داود أي : لعنهم الله في الإنجيل على لسان عيسى بن مريم وهم أصحاب المائدة ما لم يؤمنوا قال عيسى عليه السلام : اللهمّ العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبيّ، قال بعض العلماء : إنّ اليهود كانوا يفتخرون بأناس من أولاد الأنبياء فذكر الله تعالى هذه الآية ليدل على أنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء ﴿ذلك﴾ أي : اللعن المذكور ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿عصوا وكانوا يعتدون﴾ ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله تعالى :