روي أنّ رسول الله ﷺ وصف يوم القيامة لأصحابه فبالغ وأشبع في الكلام في الإنذار فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون وهم : أبو بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال لهم رسول الله ﷺ "ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟
" قالوا : بلى يا رسول الله ما أردنا إلا الخير فقال رسول الله ﷺ "إني لم أومر بذلك" ثم قال :"إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" ثم جمع الناس
٤٥٤
وخطبهم وقال :"ما بال أقوام يحرّمون النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة صوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع" فأنزل الله تعالى هذه الآية فقالوا : يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا فأنزل الله تعالى لا ﴿يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ (البقرة، ٢٢٥)، الآية.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
وروي "أنّ رسول الله ﷺ كان يأكل الدجاج والفالوز وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال :"المؤمن حلو يحب الحلاوة" وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً قال له : إني حرمت الفراش فتلا هذه الآية وقال : نم على فراشك وكفر عن يمينك" وعن الحسن : أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج والفالوز وغير ذلك فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن أهو صائم فقالوا : لا ولكنه يكره هذه الألوان فقال : يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم، وعنه أنه قيل له : فلان لا يأكل الفالوز يقول : لا أؤدي شكره قال : أفيشرب الماء البارد ؟
قال : نعم قال : إنه جاهل إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوز، وعنه أنّ الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم قال تعالى :﴿لينفق ذو سعة من سعته﴾ (الطلاق، ٧) ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوه ولا عذر قوماً ذواهاً عنهم فعصوه.
وروي أنّ عثمان بن مظعون أتى النبيّ ﷺ فقال : ائذن لي في الاختصاء فقال رسول الله ﷺ "ليس منا من خصى ولا من اختصى إن خصاء أمتي الصيام" فقال : يا رسول الله ائذن لي بالسياحة فقال :"إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله" قال : يا رسول الله ائذن لي في الترهب قال :"إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة".
وروي أنّ رجلاً قال : يا رسول الله إني أصبت من اللحم فانتشرت فأخذتني شهوة فحرّمت اللحم فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولا تعارض بين الخبرين لأنّ الشيء الواحد قد يكون له أسباب جمة بعضها أقرب من بعض.
وروي أنه ﷺ نهى عن التبتل نهياً شديداً وقال :"تزوّجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".
﴿وكلوا مما رزقكم الله﴾ ولما كان الرزق يقع على الحرام قيده بعد القيد بالتبعيض بقوله :﴿حلالاً طيباً﴾ وهو مفعول كلوا ومما حال منه تقدّمت عليه لأنه نكرة وقوله تعالى :﴿واتقوا
٤٥٥
الله﴾
تأكيد للتوصية بما أمر الله به وزاده تأكيداً بقوله :﴿الذي أنتم به مؤمنون﴾ لأنّ الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعمّا نهى عنه.
﴿لا يؤاخذكم الله باللغو﴾ الكائن ﴿في أيمانكم﴾ هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الإنسان : لا والله وبلى والله وإليه ذهب الشافعيّ رحمه الله تعالى، وقيل : هو الحلف على ما يظنّ أنه كذلك ولم يكن وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى ﴿ولكن يؤاخذكم بما عقدتم﴾ أي : وثقتم ﴿الأيمان﴾ عليه بأن حلفتم عن قصد.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
روي أنّ الحسن سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال : يا أبا سعيد دعني أجب عنك فقال :
*ولست بمأخوذ بلغو تقوله ** إذا لم تعمد عاقدات العزائم*


الصفحة التالية
Icon