تكلم الناس} حال من الكاف في أيدتك ﴿في المهد﴾ أي : طفلاً ﴿وكهلاً﴾ أي : تكلمهم في الطفولية والكهولة على السواء والمعنى : إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهول في كمال العقل والتكلم به، وبه استدل على أنه ينزل قبل الساعة ؛ لأنه رفع قبل الكهولة كما سبق في آل عمران ﴿وإذ علمتك الكتاب﴾ أي : الخط الذي هو مبدأ العلم ﴿والحكمة﴾ أي : الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم ﴿والتوراة﴾ أي : المنزلة على موسى ﷺ ﴿والإنجيل﴾ أي : المنزل عليك ﴿وإذ تخلق من الطين﴾ أي : هذا الجنس ﴿كهيئة﴾ أي : كصورة ﴿الطير﴾ والكاف اسم بمعنى مثل مفعول ﴿بإذني﴾ أي : بأمري ﴿فتنفخ فيها﴾ أي : في الصورة المهيأة ﴿فتكون﴾ تلك الصورة التي هيأتها ﴿طيراً بإذني﴾ أي : بإرادتي، وقرأ نافع بالمدّ بعد الطاء وبعد الألف همزة مكسورة وورش يرقق الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء ﴿وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني﴾ وسبق تفسيرهما في سورة آل عمران ﴿وإذ تخرج الموتى﴾ أي : من قبورهم أحياء ﴿بإذني وإذ كففت بني إسرائيل﴾ أي : اليهود ﴿عنك﴾ أي : حين هموا بقتلك وقوله تعالى :﴿إذ جئتهم﴾ ظرف لكففت ﴿بالبينات﴾ أي : المعجزات ﴿فقال الذين كفروا منهم أن﴾ أي : ما ﴿هذا﴾ الذي جئت به ﴿إلا سحر مبين﴾ أي : بيّن ظاهر، وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء إشارة إلى عيسى عليه السلام، والباقون بكسر السين وسكون الحاء ولا ألف بعدها إشارة إلى ما جاء به.
﴿وإذا أوحيت﴾ أي : بالإلهام باطناً وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهراً ﴿إلى الحواريين﴾ أي : الأنصار ﴿أن﴾ أي : بأن ﴿آمنوا بي وبرسولي﴾ عيسى ﷺ ﴿قالوا آمنا﴾ بهما ﴿واشهد بأننا مسلمون﴾ أي : منقادون أتم انقياد وقوله تعالى :
﴿إذ قال الحواريون﴾ منصوب باذكر. وقيل : ظرف لقالوا فيكون تنبيهاً على أنّ ادعاءهم الإخلاص مع قولهم :﴿يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك﴾ قرأ الكسائي بالتاء على الخطاب وإدغام لام هل فيها على أصله، وفتح الباء الموحدة من ربك أي : هل تستطيع ربك أي : سؤال ربك والمعنى : هل تسأل ذلك من غير صارف ؟
وقرأ الباقون بالياء على الغيبة ورفع الباء أي : يجيبك ربك إذا سألته ﴿أن ينزل علينا مائدة﴾ وهي الطعام ويقال أيضاً للخوان إذا كان عليه الطعام، والخوان : شيء يوضع عليه الطعام للأكل هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص، وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين أي : تميل، وقال أهل البصرة فاعلة بمعنى مفعولة أي : تميد أيدي الآكلين إليها كقولهم : عيشة راضية أي : مرضية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقولهم :﴿من السماء﴾ أي : لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدّمنا من الأمم لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة ﴿قال﴾ عيسى عليه الصلاة والسلام مجيباً لهم ﴿اتقوا الله﴾ أن تسألوه شيئاً لم
٤٦٨
تسأله الأمم من قبلكم ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ بكمال قدرته تعالى وصحة نبوّتي أو صدقتكم في ادعائكم الإيمان فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٦٧
قالوا نريد﴾ أي : بسؤالنا من أجل ﴿أن نأكل منها﴾ تبرّكاً لا أكل حاجة وقولهم :﴿وتطمئن﴾ أي : تسكن ﴿قلوبنا﴾ بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته بيان لمّا دعاهم إلى السؤال وتمهيد عذرهم وقولهم :﴿ونعلم﴾ أي : نزداد علماً ﴿أن﴾ مخففة أي : إنك ﴿قد صدقتنا﴾ في ادعاء النبوّة وإنّ الله يجيب دعوتنا، وقيل : إنّ عيسى عليه السلام أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوماً فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئاً إلا أعطاهم ففعلوا وسألوا المائدة وقالوا : ونعلم إن قد صدقتنا في قولك إنا إذا صمنا ثلاثين يوماً لا نسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطانا ﴿ونكون عليها من الشاهدين﴾ إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٦٧
﴿قال عيسى بن مريم﴾ لما رأى أنّ لهم غرضاً صحيحاً في ذلك وأنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها ﴿اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة﴾ وحقّق موضع الإنزال بقوله :﴿من السماء تكون﴾ هي أو يوم نزولها ﴿لنا عيداً﴾ نعظمه ونشرفه وقال سفيان : نصلي فيه.
وروي أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً، وقيل : إنّ عيسى عليه السلام اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى ثم قال : اللهمّ ربنا إلخ.. وقيل : العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيداً وقوله :﴿لأوّلنا وآخرنا﴾ بدل من لنا بإعادة العامل أي : عيداً لأهل زماننا ولمن جاء بعدنا وقال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم وقوله :﴿وآية﴾ عطف على عيداً وقوله :﴿منك﴾ صفة لها أي آية كائنة منك دالّة على كمال قدرتك وصحة نبوّتي ﴿وارزقنا﴾ المائدة والشكر عليها ﴿وأنت خير الرازقين﴾ أي : من يرزق ؛ لأنه تعالى خالق الرزق ومعطيه بلا غرض.