اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} أي : غيره، وقال السدّي : قال الله هذا القول لعيسى حين رفعه إلى السماء ؛ لأن حرف إذ يكون للماضي وسائر المفسرين على الأوّل، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وأدخل ألفاً بينهما قالون وأبو عمرو وورش وابن كثير لم يدخلا ألفاً بينهما والباقون بتحقيق الهمزتين ولا ألف بينهما وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص أمي بفتح الباء والباقون بالسكون.
فإن قيل : ما وجه هذا السؤال مع علم الله عز وجل أن عيسى عليه السلام لم يقله ؟
أجيب : بأنه ذكر لتوبيخ قومه كما مرّ، ولتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر : أفعلت كذا وكذا فيما يعلم أنه لم يفعله إعلاماً واستعظاماً لا استخباراً واستفهاماً، وأيضاً أراد الله عز وجل أن يقرّ عيسى على نفسه بالعبودية فيسمع قومه ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك. قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب ارتعدت فرائصه ومفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم ثم ﴿قال﴾ وهو يرعد مجيباً لله ﴿سبحانك﴾ أي : أنزهك عن أن يكون لك شريك ﴿ما يكون﴾ أي : ما ينبغي ﴿لي أن أقول ما ليس لي بحق﴾ خبر ليس "ولي" للتبيين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو لي الأولى بفتح الياء والباقون بالسكون ﴿إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما﴾ أخفيه ﴿في نفسي ولا أعلم ما في نفسك﴾ أي : ما أخفيته عني من الأشياء وقوله : في نفسك للمشاكلة. وقيل : المراد بالنفس الذات وقوله :﴿إنك أنت علام الغيوب﴾ تقرير لجملتي ﴿تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك﴾ باعتبار منطوق ﴿إنك أنت علام الغيوب﴾ ومفهومه لأنه يدل بمنطوقه على أنه تعالى لا يعلم الغيب غيره فيكون تقريراً لقوله تعالى :﴿ولا أعلم ما في نفسك﴾ وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٦٩
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به﴾ وهو ﴿أن اعبدوا الله ربي وربكم﴾ أي : فأنا وإياهم في العبودية سواء ﴿وكنت عليهم شهيداً﴾ أي : رقيباً أمنعهم مما يقولون ﴿ما دمت فيهم فلما توفيتني﴾ بالرفع إلى السماء لقوله تعالى :﴿إني متوفيك ورافعك إليّ﴾ (آل عمران، ٥٥) والتوفّي أخذ الشيء وافياً والموت نوع منه قال الله تعالى :﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها﴾ (الزمر، ٤٢) ﴿كنت أنت الرقيب﴾ أي : الحفيظ ﴿عليهم﴾ أي : لأعمالهم ﴿وأنت على كل شيء﴾ من قولي وقولهم وغير ذلك ﴿شهيد﴾ أي : مطلع عالم به.
﴿إن تعذبهم﴾ أي : من أقام على الكفر منهم ﴿فإنهم عبادك﴾ وأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك ﴿وإن تغفر لهم﴾ أي : لمن آمن منهم ﴿فإنك أنت العزيز﴾ أي : الغالب على أمره ﴿الحكيم﴾ في صنعه فإن عذبت فعدل، وإن عفوت ففضل.
﴿قال الله﴾ تعالى ﴿هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم﴾ أي : في الدنيا كعيسى فإنّ النافع ما كان حال التكليف لا صدقهم في الآخرة، وقرأ نافع بنصب الميم على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف، والمعنى : هذا الذي من كلام عيسى عليه السلام واقع يوم ينفع، والباقون بالرفع على الخبر، وقيل : أراد بالصادقين النبيين، وقال الكلبي : ينفع المؤمنين إيمانهم، وقال قتادة : متكلّمان يخطبان يوم القيامة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو ما قصّ الله تعالى وعدوّ الله إبليس، وهو قوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر فصدق عدوّ الله يومئذٍ، وكان كاذباً فلم ينفعه صدقه.
٤٧١
قال : ولما كان عيسى صادقاً في الدنيا والآخرة نفعه صدقه. ثم بيّن تعالى ثوابهم فقال :﴿لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها﴾ وأكد معنى ذلك بقوله تعالى :﴿أبداً﴾ ولما كان ذلك لا يتمّ إلا برضا الله تعالى قال :﴿رضي الله عنهم﴾ بطاعته ﴿ورضوا عنه﴾ بثوابه ﴿ذلك﴾ أي : هذا الأمر العليّ لا غيره ﴿الفوز العظيم﴾ وأمّا الكاذبون في الدنيا فلا ينفعهم صدقهم في ذلك اليوم كالكفار لما يؤمنون عند رؤية العذاب.
﴿ملك السموات والأرض﴾ أي : خزائن المطر والنبات والرزق وغيرها ﴿وما فيهنّ﴾ من إنس وجنّ وملك وغيرهم ملكاً وخلقاً، وأتى بما دون من تغليباً لغير العاقل ﴿وهو على كل شيء قدير﴾ ومنه إثابة الصادق وتعذيب الكاذب، قال السيوطي : وخصّ العقل ذاته فليس عليها بقادر، وقوله البيضاوي عن النبيّ ﷺ "من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا" حديث موضوع.
٤٧٢
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٦٩