الجواب لأنه تعالى إذا كان هو الشهيد كان أكبر شيء شهادة ﴿وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم﴾ يا أهل مكة ﴿به﴾ أي : القرآن واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة وقوله تعالى :﴿ومن بلغ﴾ عطف على ضمير المخاطبين أي : لأنذركم به يا أهل مكة ومن بلغه من الإنس والجنّ إلى يوم القيامة وهو دليل على أنّ أحكام القرآن تعمّ الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم يبلغه قال محمد بن كعب القرطبيّ : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبيّ ﷺ وقال أنس بن مالك : لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله ﷺ إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٩
وروي أنه ﷺ قال :"بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار". وفي رواية "نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها فربّ مبلغ أوعى من سامع". وفي رواية "فربّ حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" وقال مقاتل : من بلغه القرآن من الجنّ والإنس فهو نذير له وقوله تعالى :﴿أئنكم لتشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى﴾ إستفهام إنكاري قل : يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جحدوا نبوّتك واتخذوا آلهة غيري إنكم أيها المشركون لتشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها ﴿قل﴾ لهم ﴿لا أشهد﴾ بما تشهدون به أنّ مع الله آلهة أخرى بل أجد ذلك وأنكره ﴿قل إنما هو إله واحد﴾ لا شريك له وبذلك أشهد ﴿وإنني بريء مما تشركون﴾ معه من الأصنام، وفي الآية دليل على إثبات التوحيد ونفي الشريك لأنّ كلمة إنما تفيد الحصر فثبت بذلك إيجاب التوحيد والتبري من كل معبود سوى الله تعالى.
﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ أي : التوراة والإنجيل وهم علماء اليهود والنصارى ﴿يعرفونه﴾ أي : محمداً ﷺ بنعته وصفته ﴿كما يعرفون أبناءهم﴾ من بين الصبيان.
روي أنّ النبيّ ﷺ لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال عمر رضي الله تعالى عنه : إنّ الله تعالى أنزل على نبيه محمد ﷺ بمكة هذه الآية فكيف هذا ؟
فقال عبد الله بن سلام : قد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشدّ معرفة بمحمد ﷺ من ابني فقال له عمر : كيف ذلك ؟
فقال : أشهد أنه رسول الله حقاً ولا أدري ما تصنع النساء ﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ من أهل الكتاب والمشركين ﴿فهم لا يؤمنون﴾ به لما سبق لهم من الفضاء بالشقاء.
﴿ومن﴾ أي : لا أحد ﴿أظلم ممن افترى على الله كذباً﴾ كقولهم : الملائكة بنات الله واتخذ الله ولداً ﴿أو كذب بآياته﴾ الآتي بها الرسل كالقرآن وغيره من المعجزات ﴿إنه﴾ أي : الشأن ﴿لا يفلح الظالمون﴾ أي : لا ينجح القائلون على الله الكذب والمفترون عليه الباطل.
﴿و﴾ اذكر ﴿يوم نحشرهم جميعاً﴾ أي : أهل الكتاب والمشركين وغيرهم ومعبوداتهم وهو يوم القيامة ﴿ثم نقول﴾ توبيخاً ﴿للذين أشركوا﴾ أي : سموا شيئاً من دوننا إلهاً وعبدوه من الأصنام أو عزيراً أو المسيح أو الظلمة أو النور أو غير ذلك ﴿أين شركاؤكم﴾ أي : آلهتكم التي جعلتموها
٤٨٠
شركاء لله تعالى : وأضافها إلى ضميرهم لتسميتهم لها بذلك وقوله تعالى :﴿الذين كنتم تزعمون﴾ معناه كنتم تزعمونهم شركاء وإنها تشفع لكم عند الله فحذف المفعولان.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٩
ثم لم تكن فتنتهم﴾ أي : معذرتهم ﴿إلا أن قالوا﴾ أي : قولهم ﴿وا ربنا ما كنا مشركين﴾ فيختم على أفواههم وتشهد جوارحهم عليهم بالشرك، وقرأ حمزة والكسائيّ يكن بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص فتنتهم بضمّ التاء والباقون بالنصب، وقرأ حمزة والكسائيّ ربنا بنصب الباء على النداء أو المدح والباقون بالكسر.
قال الله تعالى :
﴿انظر﴾ يا محمد ﴿كيف كذبوا على أنفسهم﴾ باعتذارهم الباطل وتبريهم من الأصنام والشرك الذي كانوا عليه واستعمالهم الكذب مثل ما كانوا عليه في دار الدنيا وذلك لا ينفعهم ﴿وضلّ﴾ أي : غاب ﴿عنهم ما كانوا يفترون﴾ أي : يكذبون وهو قولهم : إنّ الأصنام تشفع لهم وتنصرهم فبطل ذلك كله في ذلك اليوم.
فإن قيل : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أنّ الكذب والجحود لا وجه لمنفعته ؟
أجيب : بأنّ الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشة إلا تراهم يقولون :﴿ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون﴾ وقد أيقنوا الخلود ولم يشكوا فيه وقالوا :﴿ليقض علينا ربك﴾ (الزحرف، ٧٧) وقد علموا أنه لا يقضي عليهم.
﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ حين تتلو القرآن.