﴿وما قدروا﴾ أي : اليهود ﴿الله حق قدره﴾ أي : ما عرفوه حق معرفته أو ما عظموه حق عظمته ﴿إذ قالوا﴾ للنبيّ ﷺ وقد خاصموه في القرآن ﴿ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ قال سعيد بن جبير جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم يخاصم النبيّ ﷺ بمكة فقال له النبيّ ﷺ "أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أنّ الله تعالى يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً" ـ والحبر بالفتح والكسر وهو أفصح العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه، قاله الجوهريّ ـ فغضب فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له قومه : ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك، فقال : إنه أغضبني، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن
٥٠٣
الأشرف. وقال السدّي : نزلت في فنحاص بن عازوراء وهو قائل هذه المقالة، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : قالت اليهود : يا محمد أنزل الله تعالى عليك كتاباً، قال : نعم، قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتاباً. قال الله تعالى :﴿قل﴾ لهم ﴿من أنزل الكتاب﴾ أي : التوراة ﴿الذي جاء به موسى﴾ أي : الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه حال كون الكتاب ﴿نوراً﴾ أي : ذا نور أي : ضياء من ظلمة الضلالة ﴿وهدى﴾ أي : ذا هدى ﴿للناس﴾ أي : يفرق بين الحق والباطل من دينهم وذلك قبل أن يبدّل ويغير ﴿يجعلونه قراطيس﴾ أي : يكتبونه في دفاتر مقطعة ﴿يبدونها﴾ أي : يظهرون ما يحبون إظهاره منها ﴿ويخفون كثيراً﴾ أي : مما كتبوه في القراطيس وهو ما عندهم من صفة محمد ﷺ ومما أخفوه أيضاً آية الرجم وكانت مكتوبة عندهم في التوراة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء في المواضع الثلاثة على الغيبة حملاً على قالوا وما قدروا، والباقون بالتاء على الخطاب وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم للتوراة وذمّهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرّقة وإخفاء بعض لا يشتهونه. وقوله تعالى :﴿وعلمتم﴾ أي : على لسان محمد ﷺ ﴿ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ خطاب لليهود أي : علمتم زيادة على ما في التوراة وبياناً لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم، ونظيره أنّ هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يذكرهم النعمة فيما عليهم على لسان محمد ﷺ وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش. وقوله تعالى :﴿قل الله﴾ أنزله راجع إلى قوله تعالى :﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى﴾ أي : فإن أجابوك بأنّ الله أنزله فذاك وإلا فقل أنت الله أنزله إذ لا جواب غيره ﴿ثم ذرهم﴾ أي : اتركهم ﴿في خوضهم﴾ أي : باطلهم ﴿يلعبون﴾ أي : يستهزؤن ويسخرون، وفيه وعيد تهديد للمشركين وقال بعضهم : هذا منسوخ بآية السيف
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٠٣
وهذا﴾
أي : القرآن ﴿كتاب أنزلناه مبارك﴾ أي : كثير الخير والبركة دائم النفع يبشر المؤمنين بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية، وأصل البركة النماء والزيادة وثبوت الخير ﴿مصدّق الذي بين يديه﴾ أي : قبله من الكتب الإلهية المنزلة من السماء على الأنبياء لأنها مشتملة على التوحيد والتنزيه لله تعالى وعلى البشارة والنذارة فثبت بذلك كون القرآن مصدقاً لجميع الكتب المنزلة، وقوله تعالى :﴿ولينذر﴾ قرأه شعبة بالياء على الغيبة أي : لينذر الكتاب، والباقون بالتاء على الخطاب أي : ولتنذر يا محمد ﴿أمّ القرى﴾ أي : أهل مكة وسميت أمّ القرى لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأناً ولبعض المجاورين :
*فمن يلق في بعض القريات رحله ** فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابي*
وقيل : لأنّ الأرض دحيت من تحتها أو لأنها مكان أوّل بيت وضع للناس ﴿ومن حولها﴾ أي : جميع البلاد والقرى التي حولها شرقاً وغرباً ﴿والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به﴾ لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبيّ والكتاب والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة، وتخصيص الصلاة في قوله تعالى ﴿وهم على صلاتهم يحافظون﴾ لأنها عماد الدين وعلم الإيمان ومن حافظ عليها كانت لطفاً له في المحافظة على أخواتها.
٥٠٤


الصفحة التالية
Icon