﴿و﴾ اذكر يا محمد ﴿يوم نحشرهم﴾ أي : الخلق ﴿جميعاً﴾ أي : لا نترك منهم أحداً، وقرأ حفص بالياء والباقون بالنون، وقوله تعالى :﴿يا معشر الجنّ﴾ فيه حذف تقديره ويقال لهم : يا معشر الجنّ، والمعشر الجماعة والمراد من الجنّ الشياطين ﴿قد استكثرتم من الإنس﴾ أي : من إضلالهم وإغوائهم حتى صار أكثرهم أتباعكم ﴿وقال أولياؤهم﴾ أي : الذين أطاعوهم ﴿من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض﴾ أي : انتفع الإنس بتزيين الجنّ لهم الشهوات والجنّ بطاعة الإنس لهم ﴿وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا﴾ أي : إنّ ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معين ووقت محدود ثم ذهب وبقيت الحسرة والندامة قال الحسن : الأجل الموت، وقيل : هو وقت البعث للحساب في القيامة ﴿قال﴾ الله تعالى على لسان الملائكة لهؤلاء الذين استمتع بعضهم ببعض من الجنّ والإنس ﴿النار مثواكم﴾ أي : مأواكم ﴿خالدين فيها﴾ أي : إلى ما لا آخر له فإنّ الجزاء من جنس العمل ﴿إلا ما شاء الله﴾ أي : من الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير.
فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم، وقيل : إلا ما شاء الله قبل الدخول قدر مدّة بعثهم ووقوفهم للحساب وقال ابن عباس : الاستثناء يرجع إلى قوم سبق في علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار، قال البغوي : فما بمعنى من على هذا التأويل ﴿إنّ ربك حكيم﴾ في صنعه ﴿عليم﴾ بعواقب أمور خلقه وما هم صائرون إليه.
﴿وكذلك﴾ أي : كما متعنا عصاة الإنس والجنّ بعضهم ببعض ﴿نولى﴾ من الولاية ﴿بعض الظالمين بعضاً﴾ أي : على بعض.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥١٨
روي عن ابن عباس في تفسيرها : هو أنّ الله تعالى إذا أراد بقوم خيراً ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شراً ولى أمرهم شرارهم ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كانوا يكسبون﴾ من الكفر والمعاصي.
٥١٩
﴿يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسل منكم﴾ أي : من مجموعكم وهم الإنس إذ الرسل منهم خاصة ولكن لما جمع الجنّ مع الإنس في الخطاب صح ذلك ونظيره قوله تعالى :﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ (الرحمن، ٢٢)
فإنّ ذلك يخرج من الملح دون العذب أو إن رسل الجنّ نذرهم الذين يسمعون كلام الرسول فيبلغون قومهم كما قال تعالى :﴿وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ﴾ (الأحقاف، ٢٩)
الآية وتعلق بظاهر الآية قوم فقالوا : بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم ﴿يقصون عليكم آياتي﴾ أي : يخبرون بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي ﴿وينذرونكم لقاء يومكم هذا﴾ أي : ويحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم القيامة ﴿قالوا شهدنا على أنفسنا﴾ أي : اعترفوا بأنّ الرسل قد أتتهم وبلغتهم رسالات ربهم وأنذرتهم لقاء يومهم هذا وإنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى :﴿وغرّتهم الحياة الدنيا﴾ أي : إنما كان ذلك بسبب أنهم غرّتهم الحياة الدنيا ومالوا إليها ﴿وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين﴾ أي : في الدنيا.
فإن قيل : كيف أقروا على أنفسهم بالكفر في هذه الآية وجحدوا في آية أخرى وهي قولهم :﴿وا ربنا ما كنا مشركين﴾ (الأنعام، ٢٣)
أجيب : بتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول فيقرون في بعضها ويجحدون في بعض آخر.
فإن قيل : لم كرّر شهادتهم على أنفسهم ؟
أجيب : بأن الأولى حكاية لقولهم : كيف يقولون وكيف يعترفون ؟
والثانية ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة إمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذيراً للسامعين عن مثل حالهم.
﴿ذلك﴾ أي : إرسال الرسل ﴿أنّ﴾ أي : لأجل أن ﴿لم يكن ربك مهلك القرى بظلم﴾ أي : بسبب ظلم ارتكبوه ﴿وأهلها غافلون﴾ أي : لم يتنبهوا برسول يبين لهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥١٨
﴿ولكل﴾ أي : من العاملين بطاعة أو معصية ﴿درجات﴾ أي : جزاء ﴿مما عملوا﴾ أي : من خير وشر إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانخفاض كتفاضل الدرج ﴿وما ربك بغافل عما يعملون﴾ أي : عن شيء يعمله أحد من الفريقين بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل من ثواب أو عقاب، وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة، والباقون بالياء على الغيبة.
﴿وربك الغني﴾ أي : الغنى المطلق عن كل عابد وعبادته فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها ﴿ذو الرحمة﴾ أي : التجاوز عن خلقه فمن رحمته إرسال الرسل وتأخير العذاب عن المذنبين لعلهم يتوبون ويرجعون ﴿إن يشأ يذهبكم﴾ يا أهل مكة بالإهلاك ففيه وعيد وتهديد لهم ﴿ويستخلف من بعدكم﴾ أي : بعد إهلاككم ﴿ما يشاء﴾ أي : خلقاً غيركم أمثل وأطوع منكم ﴿كما أنشأكم من ذرية﴾ أي : نسل ﴿قوم آخرين﴾ أذهبهم لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام ولكنه أبقاكم رحمة بكم.