فإن قيل : كيف يكون قوله :﴿أنا خير منه﴾ جواباً لما منعك وإنما الجواب أن يقول منعني كذا ؟
أجيب : بأنه جواب من حيث المعنى استأنف به استبعاداً لأن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله كأنه قال المانع : إني خير منه ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول فكيف يحسن أن يؤمر به فهو الذي سنّ التكبر وقال : بالحسن والقبح العقليين أوّلاً وعلل الخيرية بقوله تعالى :﴿خلقتني من نار﴾ فهي أغلب أجزائي وهي مشرقة مضيئة عالية غالبة ﴿وخلقته من طين﴾ أي : هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب فكل منهما مركب من العناصر الأربعة فالإضافة إلى ما ذكر باعتبار الجزء الغالب، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أوّل من قاس إبليس فأخطأ فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس، قال ابن سيرين : ما عبدت الشمس إلا بالقياس وإنما أخطأ إبليس لأنه رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى :﴿ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي﴾ (ص، ٧٥)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٣٦
أي : بغير واسطة وباعتبار الصورة كما نبه عليه تعالى بقوله :﴿ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾ (الحجر، ٢٩)
وباعتبار الغاية وهي ملاكه ولذلك أمر الملائكة بالسجود لما تبين لهم أنه أعلم منهم وإنّ له خواص ليست لغيره، وقال محمد بن جرير : ظن الخبيث أنّ النار خير من الطين ولم يعلم أنّ المفضل ما جعل الله له الفضل، وقد فضل الله الطين عن النار بوجوه منها : أنّ من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثته الاجتباء والمنزلة والهداية، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثته اللعنة والشقاوة ولأنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرّقها ولأنّ التراب سبب الحياة لأنّ حياة الأشجار والنبات لا تكون إلا مع الطين والنار سبب الهلاك.
فإن قيل : لم سأله الله تعالى عن المانع من السجود وهو عالم بما منعه ؟
أجيب : بأنه للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه أصل آدم عليه الصلاة والسلام.
﴿قال﴾ الله تعالى لإبليس ﴿فاهبط منها﴾ أي : من الجنة، وقيل : من السماء إلى الأرض، والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سبيل القهقري والهوان والاستخفاف ﴿فما يكون﴾ أي : فما يصح ﴿لك أن تتكبر فيها﴾ عن أمري لأنّ الجنة أو السماء مكان الخاشع المطيع لأمر الله تعالى وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة والسماء وأنه تعالى إنما طرد إبليس لتكبره لا لمجرّد المعصية قال ﷺ كما رواه البيهقيّ :"من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله" وعن عمر رضي الله عنه : من تواضع رفع الله حكمته، ومن تكبر وعلا طوره هضمه الله إلى الأرض ﴿فأخرج﴾ منها ﴿إنك من الصاغرين﴾ أي : الكفرة الأذلاء المهانين والصغار الذل والمهانة، قال الزجاج :
٥٣٧
استكبر عدوّ الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة، وقيل : كان له ملك الأرض فأخرجه الله منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفاً كهيئة السارق مثل شيخ عليه إطمار رثة يروغ فيها حتى يخرج منها.
﴿قال﴾ إبليس عند ذلك ﴿أنظرني﴾ أي : أخرني ولا تمتني ولا تعجل عقوبتي ﴿إلى يوم يبعثون﴾ أي : الناس وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، وهذا من جهالة إبليس الخبيث لأنه سأل ربه الإمهال وقد علم إنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يذوق الموت فطلب البقاء والخلود فلم يجب إلى ما سأل بل أجابه الله تعالى بقوله :﴿قال إنك من المنظرين﴾ لا إلى ذلك الوقت بل إلى الوقت المعلوم كما بينه تعالى في سورة الحجر بقوله تعالى :﴿فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم﴾ (الحجر، ٣٧ ـ ٣٨)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٣٦
وذلك هو النفخة الأولى التي يموت فيها الخلق.
فإن قيل : لم أجيب إلى الإنظار وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم ؟
أجيب : بأنه أجابه لما في ذلك من ابتلاء العباد وفي مخالفته من عظيم الثواب وحكمة ما خلق الله تعالى من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.
﴿قال﴾ أي : إبليس ﴿فبما أغويتني﴾ أي : فبإغوائك لي والباء للقسم أي : أقسم بإغوائك وجوابه ﴿لأقعدنّ لهم﴾ أي : لبني آدم ﴿صراطك المسقيم﴾ أي : على الطريق الموصل إليك وإنما أقسم بالإغواء لأنه كان تكليفاً والتكليف من أحسن أفعال الله تعالى لكونه تعريضاً لسعادة الأبد فكان جديراً لأن يقسم به ويجوز أن تتعلق الباء بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ أي : فبسبب إغوائك أقسم.