﴿يا بني آدم﴾ أي : الذي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي ثم أسكنته جنتي وأنزلته منها إلى دار محنتي ﴿لا يفتننكم﴾ أي : يضلنكم ﴿الشيطان﴾ أي : البعيد المحترق بالذنوب أي : لا تتبعوه فتفتتنوا فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار ﴿كما أخرج أبويكم من الجنة﴾ بفتنته بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها وقد علمتم أنّ الدفع أسهل من الرفع وقوله تعالى :﴿ينزع عنهما لباسهما﴾ حال من أبويكم أو من فاعل أخرج وإنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأنّ نزع لباسهما بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما فقال ابن عباس وقتادة : كان لباسهما الظفر فلما أصابا المصيبة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع، وقال وهب بن منبه : كان نوراً يحول بينهما وبين النظر وتقدّم بعض ذلك، وقال مجاهد : كان لباسهما التقوى، وقيل : كان لباسهما من ثياب الجنة قال بعض المفسرين : وهذا أقرب لأنّ إطلاق اللباس يطلق عليه وإنّ النزع لا يكون إلا بعد اللبس، اه. وتقدّم الكلام على قوله :﴿ليريهما سوآتهما إنه﴾ أي : الشيطان ﴿يراكم هو وقبيله﴾ أي : جنوده وقال ابن عباس : قبيله ولده، وقال أبو زيد : نسله وإنما أعاد الكناية في قوله : هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضها بعضاً ﴿من حيث لا ترونهم﴾ أي : للطافة أجسامهم أو عدم ألوانهم، وعن ابن عباس أنه قال : إنّ الله تعالى جعلهم يجرون من ابن آدم مجرى الدم، وجعل صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى كما قال تعالى :﴿الذي يوسوس في صدور الناس﴾ (الناس، ٥)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٤٢
فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم، وعن مجاهد : قال إبليس : جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى، وعن ابن دينار أن عدوّاً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله تعالى ومنع الرؤية إذا كانوا على خلقتهم الأصلية وإلا فقد يرون وأعند تشكلهم بصورة حيوان أو طير أو غير ذلك فإنّ للجنّ قوّة التشكل وهذا أمر شائع ذائع، وقد رؤي إبليس على صورة شيخ وتمثل لكثير من العباد على صورة حية بل قال شيخنا القاضي زكريا : والحق جواز رؤيتهم حتى من تلك الجهة كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة وتكون الآية مخصوصة بها فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض ﴿إنا جعلنا الشياطين أولياء﴾ أي : أعواناً وقرناء ﴿للذين لا يؤمنون﴾ لما بينهم من التناسب في الطباع.
﴿وإذا فعلوا فاحشة﴾ كالشرك وطوافهم بالبيت عراة فنهوا عنه ﴿قالوا﴾ معللين لارتكابهم إياها بأمرين : أحدهما قولهم :﴿وجدنا عليها﴾ أي : الفاحشة ﴿آباءنا﴾ فاقتدينا بهم والثاني قولهم :﴿وا أمرنا بها﴾ افتراء عليه سبحانه وتعالى فأعرض الله تعالى عن الأوّل لظهور فساده ورد عن الثاني بقوله :﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿إنّ الله لا يأمر بالفحشاء﴾ لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على
٥٤٣
الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال ﴿أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾ أنه قاله فإنكم لم تسمعوا كلام الله من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله وبين عباده وهو استفهام إنكاري يتضمن النهي عن الافتراء على الله، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية في الوصل والباقون بالتحقيق.
﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء الذين يقولون ذلك ﴿أمر ربي بالقسط﴾ أي : بالعدل وهو الوسط من كلام المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط وقال ابن عباس : بلا إله إلا الله ﴿وأقيموا﴾ أي : وقل لهم أقيموا ﴿وجوهكم﴾ لله ﴿عند كل مسجد﴾ أي : أخلصوا له سجودكم.
فإن قيل : أمر ربي خبر وأقيموا وجوهكم أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز. أجيب : بأنّ فيه إضماراً وحذفاً تقديره : قل أمر ربي بالقسط، وقل : أقيموا كما تقدّم تقديره فحذف قل لدلالة الكلام عليه، وقيل : معنى الآية وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقيل : معناه صلوا في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم ﴿وادعوه﴾ أي : اعبدوه ﴿مخلصين له الدين﴾ أي : الطاعة ولا تشركوا به شيئاً فإنّ إليه مصيركم و ﴿كما بدأكم﴾ أي : كما أنشأكم ابتداء ﴿تعودون﴾ أي : يعيدكم أحياء يوم القيامة حالة كونكم فريقين.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٤٢
فريقاً هدى﴾
أي : خلق الهداية في قلوبهم فحق لهم ثواب الهداية ﴿وفريقاً حق﴾ أي : ثبت ووجب ﴿عليهم الضلالة﴾ أي : بمقتضى القضاء السابق، وقيل : إنّ الله تعالى بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال تعالى :﴿هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ (التغابن، ٢)
ثم يعيدكم يوم القيامة، كما خلقكم كافراً ومؤمناً وقيل : يبعثون على ما كانوا عليه.


الصفحة التالية
Icon