واللام في الصالحات للجنس لا للاستغراق إذ لا يكاد المؤمن أن يعمل جميع الصالحات، واللام في لهم تدل على استحقاقهم إياها لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح لا لذاته فإنه لا يكافىء النعم السابقة فضلاً عن أن يقتضي ثواباً وجزاءً فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده ولا على الإطلاق بل بشرط أن يستمرّ عليه حتى يموت وهو يؤمن لقوله تعالى :﴿ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم﴾ (البقرة، ٢١٧) ولعله سبحانه وتعالى لم يقيدها هنا استغناء بهذه الآية وأشباهها ﴿تجري من تحتها﴾ أي : من تحت أشجارها ومساكنها ﴿الأنهار﴾ كما تراها جارية تحت الأشجار الثابتة على شواطئها، وعن مسروق : أنهار الجنة تجري في غير أخدود، قال الجوهري : الأخدود شق مستطيل في الأرض واللام في الأنهار للجنس كما في قولك لفلان بستان فيه الماء الجاري، قال البيضاوي : أو للعهد والمعهود هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى :﴿أنهار من ماء غير آسن﴾ (محمد، ١٥) الآية. اه.
قال التفتازاني : إنما يصح هذا لو ثبت سبق قوله تعالى :﴿أنهار من ماء غير آسن﴾ في الذكر.
٤٦
اه. والنهر بالفتح والسكون : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات، والمراد بالأنهار ماؤها على حذف مضاف أو تسمية للماء باسم مجراه مجازاً وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى :﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾ (الزلزلة، ٢) ﴿كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً﴾ أي : أطعموا من تلك الجنات ثمرة، ومن صلة ﴿قالوا هذا الذي رزقناكم﴾ أي : أطعمنا ﴿من قبل﴾ أي : من قبل هذا في الدنيا جعل الله تعالى ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أوّل ما يرى فإنّ الطبائع مائلة إلى المألوف مستنفرة من غيره أي : هذا من نوعه لتشابه ما يؤتون به في الصورة كما قال تعالى :﴿وأتوا به متشابهاً﴾ أي : في اللون والصورة مختلفاً في الطعم وذلك أبلغ في باب الاعجاز، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وافتخارهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة، وقيل : في الجنة لأن طعامها متشابه الصورة كما حكي عن الحسن أنّ أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل كل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فتقول الملائكة : كل فاللون واحد والطعم مختلف أو كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال :"والذي نفس محمد بيده إنّ الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها" وعن مسروق : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى والعنقود اثنا عشر ذراعاً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤
فإن قيل : على الأوّل التشابه هو التماثل في الصفة وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس : ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء. أجيب : بأن التشابه، بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم وهو كاف في إطلاق التشابه، وللآية كما قال البيضاوي محمل آخر وهو أنّ مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها فيحتمل أن يكون المراد من هذا الذي رزقنا أنه ثوابه ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والرتبة وعلوّ الطبقة، فيكون هذا في الوعد نظير قوله تعالى :﴿ذوقوا ما كنتم تعملون﴾ (العنكبوت، ٥٥) في الوعيد ﴿ولهم فيها﴾ أي : الجنات ﴿أزواج﴾ من الحور العين والآدميات ﴿مطهرة﴾ مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهنّ كالحيض والدرن أي : الوسخ ودنس الطبع وسوء الخلق فإنّ التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال ومعنى تطهيرهنّ مما ذكر كما قال التفتازاني : إنها منزهة عن ذلك مبرأة عنه بحيث لا يعرض لهنّ لا التطهر الشرعي بمعنى إزالة النجس الحسي أو الحكمي، كما في الغسل عن الحيض والزوج يقال : للذكر والأنثى، قال تعالى : وأصلحنا له زوجه، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف.
فإن قيل : فائدة المطعوم هو التقوى ودفع ضرر الجوع وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع وهذه الفوائد مستغنى عنها في الجنة. أجيب : بأن مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها ﴿وهم فيها خالدون﴾ أي : دائمون أحياء، لا يموتون ولا يخرجون، والأصل في الخلود الثبات المديد دام أو لم يدم إذ لو كان وضعه للدوام لكان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى :﴿خالدين فيها أبداً﴾[الأحزاب :
٤٧
٦٥] تأكيداً لا تأسيساً والأصل خلافه لكن المراد به الدوام في الآية عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن.


الصفحة التالية
Icon