فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل فقال :﴿وأنصح لكم﴾ وأمّا هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت فلهذا قال :﴿وأنا لكم ناصح أمين﴾.
فإن قيل : مدح الذات بأعظم صفات المدح غير لائق بالعقلاء ؟
أجيب : بأنه فعل هود ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام قومه بذلك ومقصوده الرد عليهم في قولهم :﴿وإنا لنظنك من الكاذبين﴾ فوصف نفسه بالأمانة وأنه أمين في تبليغ ما أرسل به من عند الله وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٦٠
أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم﴾
سبق تفسيره.
تنبيه : في إجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإعراض عن مقالتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة وهكذا ينبغي لكل ناصح ﴿واذكروا﴾ نعمة الله عليكم ﴿إذا جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح﴾ أي : خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكاً في الأرض فإنّ شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج وهو موضع بالبادية بها رمل إلى شحر عمان وهو بفتح الشين المعجمة وكسرها وبالحاء المهملة ساحل البحر بين عمان وعدن ﴿وزادكم في الخلق بسطة﴾ أي : طولاً وقوّة قال الجلال المحلى في سورة الفجر : كان طول الطويل منهم أربعمائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعاً، وقال أبو حمزة اليماني : سبعون ذراعاً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ثمانون ذراعاً، وقال مقاتل : كان طول كل رجل اثني عشر ذراعاً، أخرج ابن عساكر عن وهب بذراعهم أي : على الأقوال كلها، وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظمية وكان عين الرجل ـ أي : بعد موته ـ تفرخ فيها الضباع وكذا مناخرهم، وقرأ نافع والبزي وشعبة والكسائي بالصاد وأبو عمرو وهشام وقنبل وحفص وخلف بالسين وأمّا ابن ذكوان وخلاد فقرآ بالسين والصاد ﴿فاذكروا آلاء الله﴾ أي : أنعمه أي : اعملوا بما يليق بذلك الإنعام وهو أن تؤمنوا به وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام ﴿لعلم تفلحون﴾ أي : تفوزون بالنعيم المقيم في الآخرة.
﴿قالوا﴾أي : قوم هود مجيبين له ﴿أجئتنا﴾ يا هود ﴿لنعبد الله وحده ونذر﴾ أي : نترك ﴿ما كان يعبد آباؤنا﴾ أي : من الأصنام استبعدوا اختصاص الله تعالى بالعبادة والإعراض عما أشرك به
٥٦١
آباؤهم ومعنى المجيء في أجئتنا إما لأن هوداً كان معتزلاً عن قومه كما كان يفعل النبيّ ﷺ بحراء قبل البعثة فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم أو يريدون به الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك أو أن المقصود على المجاز كما تقول : ذهب يشتمني ولا يراد حقيقة الذهاب ﴿فأتنا بما تعدنا﴾ أي : من العذاب ﴿إن كنت من الصادقين﴾ أي : في قولك : إني رسول الله.
﴿قال﴾ هود مجيباً لهم ﴿قد وقع عليكم﴾ أي : نزل عليكم ﴿من ربكم رجس﴾ عقاب ﴿وغضب﴾ أي : سخط ﴿أتجادلونني في أسماء سميتموها﴾ أي : وضعتموها ﴿أنتم وآباؤكم﴾ أي : من عند أنفسكم، والاستفهام للإنكار عليهم لأنهم سموا الأصنام بالآلهة فعبدوها من دون الله ﴿ما نزل الله بها﴾ أي : بعبادتها ﴿من سلطان﴾ أي : حجة وبرهان لأنّ المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل وإنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إمّا بإنزال آية أو نصب دليل ﴿فانتظروا﴾ أي : نزول العذاب بسبب تكذيبكم لي ﴿إني معكم من المنتظرين﴾ ذلك فأرسلت عليهم الريح العقيم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٦٠
فأنجيناه﴾
أي : هوداً ﴿والذين معه﴾ أي : من المؤمنين ﴿برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا﴾ أي : استأصلناهم وقوله تعالى :﴿وما كانوا مؤمنين﴾ عطف على كذبوا. روي أنّ قوم هود كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم هوداً فكذبوا وازدادوا عتواً فأمسك الله تعالى القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس حينئذ مسلمهم وكافرهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله تعالى الفرج فجهزوا إلى الحرم قيل بن عنز ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم وكان بمكة إذ ذاك العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فلبثوا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له وكان اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة فتسميتهما جرادتين فيه تغليب والقينة الأمة مغنية أو غير مغنية فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحى أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا : قل شعراً نغنيهم به ولا يدرون من قاله فعلم القينتين معاوية :
*ألا يا قل ويحك قم فهينم*
والهينمة الصوت الخفي أي : أخف الدعاء.
*لعل الله يمنحنا غماما
والغمام هنا المطر.
*فيسقي أرض عاد إن عاداً ** قد أمسوا لا يبينون الكلاما*
*من العطش الشديد فليس نرجو ** به الشيخ الكبير ولا الغلاما*


الصفحة التالية
Icon