ركبتاه وأرعب قلبه واشتد بكاؤه فقال له رأس الملائكة : يا ابن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم مرّت به ملائكة السماء الخامسة لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتدّ حزنه وكثر بكاؤه فقال له رأس الملائكة : يا ابن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه ثم مرّت به ملائكة السماء السادسة وفي يد كل واحد منهم مثل النخلة الطويلة نور أشدّ ضوأً من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات كلهم يقولون بشدّة أصواتهم : سبوح قدّوس ربّ العزة أبداً لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم وهو يبكي ويقول : يا رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن مكثت احترقت، فقال له رأس الملائكة : قد أوشك يا ابن عمران أن يشتدّ خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة فلما بدا نور العرش انصدع نور الجبل من عظمة الله تعالى ورفعت الملائكة أصواتهم جميعاً يقولون : سبحان الملك القدّوس رب العزة أبداً لا يموت بشدّة أصواتهم فارتج الجبل واندك وذلك قوله تعالى :﴿فلما تجلى ربه﴾ أي :"أظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر" كما في حديث صححه الحاكم ﴿للجبل﴾ أي : جبل زبير بفتح الزاي والإضافة فيه بيانية لقول الجوهري : الزبير اسم للجبل الذي كلم الله تعالى عليه السلام عليه ﴿جعله دكاً﴾ أي : مدكوكاً مفتتاً، وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً مستوياً بالأرض والدك والدق أخوان، وقال ابن عباس : جعله تراباً، وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه، وقال الكلبي : كسر جبالاً صغاراً، قال البغويّ : ووقع في بعض التفاسير صار لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحرا.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٨٦
وقرأ حمزة والكسائيّ بألف بعد الكاف وهمزة مفتوحة من غير تنوين وصلاً ووقفاً أي : مستوياً ومنه ناقة دكاء للتي لا سنام لها والباقون بالتنوين بعد الكاف والوقف على ألف التنوين ﴿وخرّ﴾ أي : وقع ﴿موسى صعقاً﴾ أي : مغشياً عليه من هول ما رأى غشية كالموت، وروي أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشيّ عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون له : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة ﴿فلما أفاق﴾ من غشيته ﴿قال﴾ تعظيماً لما رأى ﴿سبحانك﴾ أي : تنزيهاً لك من النقائص كلها ﴿تبت إليك﴾ أي : من الجراءة والإقدام على السؤال بغير إذن، وقيل : لما كانت الرؤية مختصة بمحمد ﷺ فمنعها قال : سبحانك تبت إليك من سؤالي ما ليس لي، وقيل : لما سأل الرؤية ومنعها قال : تبت إليك من هذا السؤال وحسنات الأبرار سيئات المقرّبين ﴿وأنا أوّل المؤمنين﴾ أي : في زماني، وقيل : أنا أوّل من أمن إنك لا ترى في الدنيا أي : لكل الأنبياء وإلا فالرؤية ثابتة لنبينا محمد ﷺ ليلة الإسراء على الصحيح وللزمخشري هنا في كشافه على مذهبه الفاسد في عدم الرؤية مطلقاً تأويلات فلتحذر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٨٦
﴿قال يا موسى إني اصطفيتك﴾ أي : اخترتك ﴿على الناس﴾ أي : الموجودين في زمانك وهارون وإن كان نبياً مرسلاً كان مأموراً باتباعه ولم يكن كليماً ولا صاحب شرع وقرأ ابن كثير وأبو
٥٩٠
عمرو بفتح ياء إني والباقون بالسكون وقوله تعالى :﴿برسالاتي﴾ أي : بأسفار التوراة، قرأه نافع وابن كثير بغير ألف بعد اللام على التوحيد والباقون بالألف بعد اللام على الجمع ﴿وبكلامي﴾ أي : وبتكليمي إياك ﴿فخذ ما آتيتك﴾ أي : ما أعطيتك من الرسالة ﴿وكن من الشاكرين﴾ لأنعمي لأنّ موسى عليه السلام لما منع الرؤية عدّد الله تعالى عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له : إن كنت منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علماً وعملاً والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية قال الإمام الرازي : وهذا أيضاً أحد ما يدل على أنّ الرؤية جائزة على الله تعالى إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٩٠


الصفحة التالية
Icon