فإن قيل : هارون وموسى من أب وأمّ فلماذا ناداه بالأمّ فقط ؟
أجيب : بأنه إنما ذكرها لأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها ليرققه عليه والطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون : أخذ برأس أخيه يجره على سبيل الإهانة والاستحقاق والمثبتون لعمة الأنبياء يقولون : أخذ برأس أخيه يجره على سبيل الإهانة والاستخفاف والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا : جر رأس أخيه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة.
فإن قيل : فلماذا قال يا ابن أمّ ﴿إنّ القوم﴾ الذين عبدوا العجل ﴿استضعفوني﴾ أي : إني قد بذلت وسعي في كفهم فاستذلوني وقهروني ﴿وكادوا﴾ أي : قاربوا ﴿يقتلونني فلا تشمت بي
٥٩٥
الأعداء﴾ أي : فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله وأصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال : شمت فلان بفلان إذا سرّ بمكروه نزل به أي : لا تسرّ الأعداء بما تنال مني من مكروه فكيف فعل بأخيه ذلك ؟
أجيب : بأنّ هارون إنما قال ذلك خوفاً من أن يتوهم جهال بني إسرائيل أنّ موسى غضبان عليه كما هو غضبان على عبدة العجل أي : فلا تفعل بي ما تشمت به أعدائي فهم أعداؤك فإنّ القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام ﴿ولا تجعلني مع القوم الظالمين﴾ أي : الذين عبدوا العجل مع براءتي منهم بالمؤاخذة أو بنسبة التقصير ولما اعتذر له أخوه وذكر شماتة الأعداء.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٩٤
قال رب اغفر لي﴾ أي : ما حملني عليه مما صنعت بأخي ﴿ولأخي﴾ أي : اغفر له ما فرط في كفهم عن عبادة العجل إن كان وقع منه تفريط وضمه إلى نفسه في الاستغفار ترضية له ودفعاً للشماتة عنه ﴿وأدخلنا في رحمتك﴾ أي : بمزيد الإنعام علينا ﴿وأنت أرحم الراحمين﴾ فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا قال الله تعالى :
﴿إنّ الذين اتخذوا العجل﴾ أي : إلهاً يعبدونه من دون الله تعالى فهذا هو المفعول الثاني من مفعولي اتخذوا ﴿سينالهم غضب﴾ أي : عقوبة ﴿من ربهم وذلة في الحياة الدنيا﴾ وهي خروجهم من دارهم، وللمفسرين في هذه الآية طريقان الأوّل أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين باشروا عبادة العجل.
فإن قيل : أولئك تاب الله عليهم بسبب أن قتلوا أنفسهم في معرض التوبة على ذلك الذنب وإذا تاب الله عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة ؟
أجيب : بأنّ ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو نفس القتل فكان ذلك القتل غضباً عليهم والمراد بالذلة هو استسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ، وقيل : خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب.
فإن قيل : السين في قوله : سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي ؟
أجيب : بأنّ هذا إنما هو خبر عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله تعالى في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقاً لوقته وهو القتل الذي أمرهم الله تعالى به بعد ذلك، والطريق الثاني : أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين كانوا في زمن النبيّ ﷺ فوصف اليهود الذين كانوا في زمن النبيّ ﷺ باتخاذ العجل وإن كان ما فعل ذلك إلا آباؤهم لأنهم رضوا بفعلهم ولأنّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقب يقولون للأمم : أفعلتم كذا وكذا ؟
وإنما فعله من مضى من آبائهم. ثم حكم عليهم بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا كما قال تعالى في صفتهم :﴿ضربت عليهم الذلة والمسكنة﴾ (البقرة، ٦١)
﴿وكذلك﴾ أي : كما جزيناهم ﴿نجزي المفترين﴾ أي : كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله في الآخرة والذلة في الدنيا، قال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية لأنّ المبتدع مفتر في دين الله.
﴿والذين عملوا السيئات﴾ أي : عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب حتى الكفر ﴿ثم تابوا﴾ أي : رجعوا عنها إلى الله تعالى ﴿من بعدها﴾ أي : من بعد أعمالهم السيئة ﴿وآمنوا﴾ أي : وصدقوا بالله تعالى بأنه لا إله غيره وأنه يقبل توبة التائب ويغفر الذنوب وإن عظمت ﴿إنّ
٥٩٦
ربك﴾ أي : يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب ﴿من بعدها﴾ أي : التوبة ﴿لغفور﴾ أي : ستور عليهم محاء لما كان منهم ﴿رحيم﴾ بهم أي : منعم عليهم بالجنة وفي الآية دليل على أنّ السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأنّ الله تعالى يغفرها جميعاً بفضله ورحمته فإنّ عفوه وكرمه أعظم وأجل وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين التائبين، وتقدير الآية : أنّ من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله تعالى وأخلص التوبة فإنّ الله يغفرها له ويقبل توبته.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٩٤