وقوله تعالى :﴿يأمرهم بالمعروف﴾ قال الزجاج : يجوز أن يكون استئنافاً ويجوز أن يكون المعنى : يجدونه مكتوباً عندهم إنه يأمرهم بالمعروف قال الرازي : ومجامع المعروف في قوله عليه الصلاة والسلام "التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله" وذلك لأنّ الموجود إمّا واجب الوجود لذاته وإمّا ممكن لذاته، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخشوع والخضوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفاً بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزهاً عن الأضداد والأنداد، وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيواناً فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأنّ الانتفاع مشروط بالحياة ومع ذلك فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله ومن حيث إنّ كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاً ظاهراً وبرهاناً باهراً على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام ومن حيث إنّ لله سبحانه وتعالى في كل ذرة من ذرات المخلوقات أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام، وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ويدخل فيه برّ الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أنّ قوله ﷺ "التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله" كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف ﴿وينهاهم عن المنكر﴾ وهو ضد الأمور المذكورة، وقال عطاء : يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد وبمكارم الأخلاق وبصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر أي : عبادة الأوثان وقطع الأرحام ﴿ويحل لهم الطيبات﴾ أي : ما حرم عليهم في شرعهم كالشحوم ﴿ويحرم عليهم الخبائث﴾ كالدم ولحم الخنزير والربا والرشوة ﴿ويضع عنهم إصرهم﴾ أي : ثقلهم الذي كان يحمل عليهم، وقرأ ابن عامر بفتح الهمزة الممدودة والصاد وألف بعد الصاد عى الجمع والباقون بكسر الهمزة وسكون الصاد ولا ألف بعدها على التوحيد ﴿والأغلال التي كانت عليهم﴾ أي : ويضع الأثقال والشدائد التي كانت عليهم من الدين والشريعة وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة من البدن والثوب بالمقراض وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق كما أنّ اليد لا تمتدّ مع وجود الغل فكذلك لا تمتدّ إلى الحرام الذي نهيت عنه وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء محمد ﷺ نسخ ذلك كله ويدلّ عليه قوله
٦٠١
صلى الله عليه وسلم "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" ﴿فالذين آمنوا به﴾ أي : بمحمد ﷺ ﴿وعزروه﴾ أي : وقروه وعظموه وأصل التعزير المنع والنصرة وتعزير النبيّ ﷺ تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه ﴿ونصروه﴾ على أعدائه ﴿واتبعوا النور الذي أنزل معه﴾ أي : القرآن سمي نوراً لأن به يستنير قلب المؤمن فيخرج من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم، وقيل : الهدى والبيان والرسالة، وقيل : الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٩٩
فإن قيل : كيف يمكن حمل النور هنا على القرآن والقرآن ما أنزل مع محمد ﷺ وإنما أنزل مع جبريل عليه السلام ؟
أجيب : بأنّ معناه أنه أنزل مع نبوّته لأنّ نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات قال :﴿أولئك هم المفلحون﴾ أي : الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة.
ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبيّ الكريم حثاً على الإيمان وإيجاباً له على وجه يعلم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدّم زمانه أو تأخر قال تعالى :
﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم﴾ الخطاب عام وكان رسول الله ﷺ مبعوثاً إلى كافة الثقلين بل وإلى الملائكة قاله السبكي والبقاعيّ وغيرهما وهذا هو اللائق بمقامه ﷺ وإن خالف في ذلك بعضهم، وأما سائر الرسل فمبعوثون إلى أقوامهم فقط لقوله ﷺ "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طيبة مسجداً وطهوراً ونصرت على عدوّي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر وأطعمت الغنيمة دون من قبلي وقيل لي سل تعطه وأخبأت شفاعتي لأمتي".


الصفحة التالية
Icon