من وجوه : الأوّل : أنه قال هناك :﴿وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية﴾ وهنا قال :﴿وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية﴾ والثاني : أنه قال هناك :﴿فكلوا﴾ بالفاء وقال هنا :﴿وكلوا﴾ بالواو، والثالث : أنه قال هناك :﴿رغداً﴾ وأسقطه هنا، والرابع : أنه قال هناك :﴿وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة﴾ وقال هنا : على التقديم والتأخير، والخامس : أنه قال هناك :﴿نغفر لكم خطاياكم﴾ وقال هنا :﴿نغفر لكم خطيئاتكم﴾ والسادس : أنه قال هناك :﴿وسنزيد المحسنين﴾ وهنا : حذف الواو، والسابع : أنه قال هناك :﴿فأنزلنا على الذين ظلموا﴾ وقال هنا :﴿فأرسلنا عليهم﴾ الثامن : أنه قال هناك :﴿بما كانوا يفسقون﴾ وقال هنا :﴿بما كانوا يظلمون﴾ ولا منافاة بين هذه الألفاظ المختلفة أمّا الأول : وهو أنه قال هناك :﴿ادخلوا هذه القرية﴾ وقال هنا :﴿اسكنوا﴾ فلا منافاة بينهما لأنّ كل ساكن في موضع فلا بدّ من الدخول فيه، وأمّا الثاني : وهو قوله هناك :﴿فكلوا﴾ بالفاء، وقال هنا :﴿وكلوا﴾ بالواو فالفرق بينهما أنّ للدخول حالة مقتضية للأكل عقب الدخول فحسن دخول الفاء التي هي للتعقيب ولما كانت السكنى حالة استمرار حسن دخول الواو عقب السكنى فيكون الأكل حاصلاً متى شاؤوا فظهر الفرق، وأمّا الثالث : وهو أنه ذكر هناك :﴿رغداً﴾ وأسقطه هنا فلأنّ الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل والأكل مع السكنى والاستمرار ليس كذلك فحسن دخول لفظ رغداً هناك : دون هنا، وأمّا الرابع : وهو قوله هناك :﴿ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة﴾ وقال هنا على التقديم والتأخير فلا منافاة في ذلك لأنّ المقصود من ذلك تعظيم أمر الله تعالى وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير، وأمّا الخامس : وهو أنه قال هناك :﴿خطاياكم﴾ وقال هنا :﴿خطيئاتكم﴾ فهو إشارة إلى أنّ هذه الذنوب سواء كانت قليلة أم كثيرة فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرّع، وأمّا السادس : وهو قوله تعالى هناك :﴿وسنزيد﴾ بالواو وقال هنا بحذفها فالفائدة في حذف الواو أنه تعالى وعد بشيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بذلك المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل : ماذا حصل بعد الغفران ؟
فقيل : إنه سيزيد المحسنين، وأما السابع : وهو الفرق بين أنزلنا وبين أرسلنا، فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيراً وهو نظير ما تقدّم من الفرق بين انبجست وانفجرت.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٠٤
وأما الثامن وهو الفرق بين قوله تعالى :﴿يفسقون﴾ وبين قوله تعالى :﴿يظلمون﴾ فلأنهم لما ظلموا أنفسهم فيما غيروا وبدّلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله فوصفوا بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين لأنهم خرجوا عن طاعة الله فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين هذا ملخص كلام الرازي رحمه الله تعالى ثم قال : وتمام العلم بذلك عند الله تعالى.
٦٠٦
﴿واسألهم﴾ أي : اسأل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع ﴿عن القرية﴾ أي : عن خبرها وما وقع بأهلها لا سؤال استفهام لأنه ﷺ كان قد علم حال هذه القرية بوحي من الله تعالى إليه وإخباره إياه بحالهم وإنما القصد من هذا السؤال تقرير اعتداء اليهود وإقدامهم على الكفر والمعاصي قديماً، وأن إصرارهم على الكفر بمحمد ﷺ وإنكارهم نبوته ومعجزاته ليس بشيء قد حدث الآن في زمانه، بل إصرارهم على الكفر كان حاصلاً في قديم الزمان، وفي الإخبار بهده القصة معجزة للنبي ﷺ لأنه كان أمياً لم يقرأ الكتب القديمة ولم يعرف أخبار الأوّلين ثم أخبرهم بما جرى لأسلافهم في قديم الزمان وأنهم بسبب مخالفتهم لأمر الله تعالى مسخوا قردة، واختلفوا في هذه القرية فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور على شاطىء البحر، وقال الزهري : هي طبرية الشام، وقيل : مدين والعرب تسمي المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء : ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني : رجلين من أهل المدن. ﴿التي كانت حاضرة البحر﴾ أي : مجاورة بحر القلزم على شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى :﴿ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام﴾ (البقرة، ١٩٦)