فإن قيل : كيف تعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر ؟
أجيب : بأنها لما كانت وصلة للحياة الدائمة التي هي الحقيقية كما قال تعالى :﴿وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان﴾ (العنكبوت، ٦٤) يعني :
٥١
الحياة، كانت من النعم العظيمة مع أنّ المعدود عليهم نعمة هو المعنى المتنزع من القصة بأسرها كما أن الواقع حالاً هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح حالاً ويصح أن يكون الخطاب مع الكفار والمؤمنين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوّة ووعدهم على الإيمان وأوعدهم على الكفر أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامّة والخاصة واستبعد صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم وأن يكون مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتاً أي : جهالاً فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف ثم يحييكم الحياة الحقيقية ثم إليه ترجعون فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والحياة حقيقة في القوّة الحاسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيواناً مجاز في القوّة النامية لأنها من طلائعها ومقدّماتها وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث أنه كمالها وغايتها والموت بإزائها، يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى :﴿قل الله يحييكم ثم يميتكم﴾ (الجاثية، ٢٦) ومثال ما يقابل المجاز الأوّل قوله تعالى :﴿اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها﴾ (الحديد، ١٧) ومثال ما يقابل المجاز الثاني قوله تعالى :﴿أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس﴾ (الأنعام، ١٢٢) وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى، ثم أومأ إلى مشيئته وقدرته فقال :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٨
﴿هو الذي خلق لكم ما في الأرض﴾ أي : لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط كالأدوية المركبة، أو غير وسط كالثمرة والأدوية المفردة، وفي دينكم بالاستدلال على موجدكم ففي ذلك نعمة على عباده سبحانه وتعالى وما نعم كل ما في الأرض لا الأرض إلا إن أريد بالأرض جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو وقوله تعالى :﴿جميعاً﴾ حال من الموصول الثاني وهو ما وهي حال مؤكدة لما لاتحادهما في العموم وهذا أقرب من جعله حالاً من ضمير لكم لأنّ سياق الآيات إنما هو في تعداد النعم لا في تعداد المنعم عليهم، ولأنّ المنة بتعداد النعم أظهر من المنة بتعداد المنعم عليهم لأنّ مقدار النعم يصل إلى كل أحد ﴿ثم استوى إلى السماء﴾ أي : قصد إلى خلقها بإرادته، وأصل الاستواء طلب السواء وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ولا يمكن حمله على الله تعالى لأنه من خوّاص الأجسام وقيل : استوى استولى كما قيل :
*قد استوى بشر على العراق ** من غير سيف ودم مهراق*
والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية أو جهات العلو ليطابق قوله تعالى :﴿فسوّاهنّ سبع سموات﴾ فجمع الضمير العائد إلى السماء لإرادة الجنس، وقيل : لأنّ السماء جمع سماءة أي : جعلهنّ مستويات لا شقوق فيهنّ ولا تفاوت، قال البيضاويّ : وثم لعله لتفاوت ما بين الخلقين أي :
٥٢
في القدر والعظم وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى :﴿ثم كان من الذين آمنوا﴾ (البلد، ١٧) لا للتراخي في الوقت فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى :﴿والأرض بعد ذلك دحاها﴾ (النازعات، ٣٠) فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدّم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها. اه، وأجيب : بأنه لا يدل على ذلك لأن تقدّم خلق جرم الأرض على خلق جرم السماء لا ينافي تأخر دحوها عنه وهو بسطها، وردّه التفتازانيّ بأنه ليس على ما ينبغي لأن ثم تدل على تأخر خلق السماء عن خلق ما في الأرض من عجائب الصنع حتى أسباب اللذات والآلام وأنواع الحيوانات حتى الهوام لا عن مجرّد خلق جرم الأرض قال : وسنذكر في حم السجدة ما يدل على تأخر خلق السماء عن خلق الأرض ودحوها جميعاً حتى قيل : إنه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء وما فيها في يومين وكثر ذلك في الروايات فلا يفيد حمل ثم على تراخي الرتبة، اه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٢
والأوجه كما قاله بعض المفسرين الموافق لظاهر ما هنا وما سيأتي في فصلت تأويله مع الإيضاح أن يقال : إنّ خلق جرم الأرض مقدّم على خلق جرم السماء، وخلق وصفها ـ أعني : دحوها ـ مقدّم على خلق وصف السماء أعني تسويتها سبعاً، فمرجع الإشارة في قوله تعالى بعد ذلك جرم السماء لا وصفها وبذلك علم أن جعل ثم للتراخي في الوقت لا يخالف ما ذكر خلافاً لما زعمه البيضاويّ.