فحرك اللام والخلف مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد والجمع والمراد به الذين كانوا في عهد رسول الله ﷺ ﴿ورثوا الكتاب﴾ أي : التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها ﴿يأخذون عرض هذا الأدنى﴾ أي : هذا الشيء الفاني الأدنى أي : الدنيا وما يتمتع به فيها وفي قوله :﴿هذا الأدنى﴾ تخسيس وتحقير، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب، وإما من دون الحال وسقوطها وقلتها والعرض بالفتح جميع متاع الدنيا كما يقال : الدنيا
٦٠٩
عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير وجمعه عروض. والمعنى : أنهم يأخذون حطام الدنيا وهو الشيء التافه الخسيس الحقير ؛ لأنّ الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنه حرام ﴿و﴾ مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم وإصرارهم عليه ﴿يقولون سيغفر لنا﴾ أي : لا يؤاخذهم الله تعالى بذلك فيتمنون على الله الأمانيّ الباطلة، وعن شدّاد بن أوس أن النبيّ ﷺ قال :"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" ؛ لأنّ اليهود كانوا يقومون على الذنوب ويقولون : سيغفر لنا، وهذا هو التمني بعينه. وقوله تعالى :﴿وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه﴾ الواو فيه للحال أي : يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار وقوله تعالى :﴿ألم يؤخذ﴾ استفهام تقرير ﴿عليهم ميثاق الكتاب﴾ أي : التوراة والإضافة بمعنى في ﴿أن لا يقولوا على الله إلا الحق﴾ أي : المعلوم شأنه وليس من المعلوم إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وقوله تعالى :﴿ودرسوا ما فيه﴾ أي : ما في ذلك الميثاق الذي في الكتاب أو الكتاب بتقرير القراءة للحفظ عطف على ﴿ألم يؤخذ﴾ من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا و﴿ألم يؤخذ﴾ اعتراض ﴿والدار الآخرة خير﴾ أي : وما في الدار الآخرة مما أعده الله خير ﴿للذين يتقون﴾ الله ويخافون عقابه ﴿أفلا يعقلون﴾ أي : حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدل ما يسعدهم ويبقى أنّ الدار الآخرة خير، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب ويكون المراد الإعلام بتناهي الغضب، والباقون بالياء على الغيبة.
﴿والذين يمسكون بالكتاب﴾ يقال : مسكت بالشيء وتمسكت به وأمسكت به والتمسك بالكتاب العمل بما فيه وإحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه وقرأ شعبة بسكون الميم وتخفيف السين والباقون بفتح الميم وتشديد السين ﴿وأقاموا الصلاة﴾ أي : وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيهاً على عظم قدرها وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى وهذه الآية نزلت في الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وقوله تعالى :﴿إنا لا نضيع أجر المصلحين﴾ الجملة خبر الذين وفيه وضع الظاهر موضع المضمر أي : أجرهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٠٧
٦١٠
﴿وإذا ﴾ أي : إذ يا محمد ﴿نتقنا﴾ أي : رفعنا ﴿الجبل فوقهم﴾ أي : من أصله ﴿كأنه ظلة﴾ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كأنه سقيفة والظلة كل ما أظلك من سقف بيت أو سحابة أو جناح حائط والجمع ظلل وظلال ﴿وظنوا﴾ أي : أيقنوا ﴿أنه واقع بهم﴾ أي : ساقط عليهم بوعد الله بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة.
روي أنهم لم يقبلوا أحكام التوراة لعظمها وثقلها فرفع الله تعالى الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم فكان فرسخاً في فرسخ، وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعنّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل واحد منهم ساجداً على حاجبه وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون : هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة، وقوله تعالى :﴿خذوا﴾ هو على إضمار القول أي : قلنا لهم خذوا أو قائلين خذوا ﴿ما آتيناكم﴾ أي : من الكتاب وقوله تعالى :﴿بقوّة﴾ أي : بجد وعزم على تحمل مشاقه حال من واوخذوا ﴿واذكروا ما فيه﴾ أي : بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي ﴿لعلكم تتقون﴾ أي : فضائح الأعمال ورذائل الأخلاق
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦١٠
وإذ﴾ أي : واذكر يا محمد حين ﴿أخذ ربك من بني آدم﴾ وقوله تعالى :﴿من ظهورهم﴾ بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار كما قاله السيوطي، أو بدل بعض كما قاله البيضاوي ﴿ذريّاتهم﴾ أي : بأن أخرج بعضهم من صلب بعض نسلاً بعد نسل كنحو ما يتوالدون كالذر، ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً عرفوا به، كما جعل للجبال عقولاً حين خوطبوا بقوله تعالى :﴿يا جبال أوبي معه والطير﴾ (سبأ، ١٠)