وأما أطفال المشركين، ففيهم ثلاثة مذاهب، قال الأكثرون : هم في النار تبعاً لآبائهم، وتوقف طائفة منهم، والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون : أنهم من أهل الجنة، واستدلوا بأشياء منها حديث "إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبيّ ﷺ في الجنة، وحوله أولاد الناس، قالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين، قال : وأولاد المشركين" رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى :﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾ (الإسراء، ١٥)
ولا يتوجه على المولود التكليف، ولا يلزمه قبول قول المرسل حتى يبلغ، وهذا متفق عليه.
وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله تعالى خالق أفعال العباد جميعها خيرها وشرّها ؛ لأنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيراً من الجنّ والإنس للنار، ولا مزيد على بيان الله تعالى ؛ ولأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار، فلما عمل بما يوجب عليه دخول النار به علم أنّ له من يضطرّه إلى ذلك العمل الموجب لدخول النار وهو الله تعالى.
وقالت المعتزلة : إن اللام في قوله :﴿لجهنم﴾، لام العاقبة، واستدلوا لذلك بآيات وأشعار، فمن الآيات قوله تعالى :﴿فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً﴾ (القصص، ٨)
وهم ما التقطوه لهذا الغرض، ومنها قول موسى :﴿ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك﴾ (يونس، ٨٨)
ومن الأشعار قول بعضهم :
*وللموت تغذ و الوالدات سخالها ** كما لخراب الدهر تبنى المساكن*
وقال آخر :
٦١٦
*أموالنا لذوي الميراث نجمعها ** ودورنا لخراب الدهر نبنيها*
وقال آخر :
*له ملك ينادي كل يوم ** لدوا للموت وابنوا للخراب*
وقال آخر :
*وأمّ شمال فلا تجزعي ** فللموت ما تلد الوالدات*
وهذا مردود ؛ لأنّ المصير إلى التأويل إنما يحسن إذا ثبت الدليل العقلي على امتناع حمل اللفظ على ظاهره، فإذا لم يثبت كان المصير إلى التأويل في هذا المقام عبثاً، فالحق مذهب أهل الحق جعلنا الله تعالى وأهل مودّتنا منهم بمحمد ﷺ وآله، ثم وصف الله تعالى هؤلاء الذين أضلهم بقوله تعالى :﴿لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها﴾ أي : لا يبصرون بها طريق الحق والهدى ﴿ولهم آذان لا يسمعون بها﴾ أي : الآيات والمواعظ سماع تأمّل وتذكر، وقال أهل المعاني : إنّ الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا، ولهم أعين يبصرون بها المرئيات، وآذان يسمعون بها الكلمات، وهذا لا شك فيه، ولما وصفهم الله تعالى بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدرّاكة علم أنّ المراد من ذلك يرجع إلى مصالح الدين، وما فيه نفعهم في الآخرة، والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له، ومنه قوله الشاعر :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦١٦
وعوراء الكلام صممت عنها ** وإني إن أشاء بها سميع*
فإنه أثبت له صمماً مع وجود السمع ولما سلب عنهم هذه المعاني كانت النتيجة ﴿أولئك﴾ أي : البعداء من المعاني الإنسانية ﴿كالأنعام﴾ في أنها لا تفهم ولا تعقل ذلك ؛ لأنّ الإنسان وسائر الحيوانات مشتركة في هذه الحواس الثلاث التي هي القلب والبصر والسمع، وإنما فضل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدّي إلى معرفة الحق من الباطل والخير من الشرّ، فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه كان لا فرق بينه وبين البهائم التي لا تدرك شيئاً، ولما كانوا قد زادوا على ذلك بفقد نفع هذه الحواس قال تعالى :﴿بل هم أضلّ﴾ سبيلاً من الأنعام ؛ لأنّ الأنعام تعرف ما يضرّها وما ينفعها، فإذا رأت ناراً مثلاً لا تقع فيها، وإذا رأت كلأ مثلاً دخلت فيه، والكافر لا يعرف ذلك ؛ ولأنّ الحيوان لا قدرة له على تحصيل هذه الفضائل ؛ والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخس حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها ؛ ولأنّ الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع، ولأنّ الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ؛ ولأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد، فأما إذا كان معها مرشد فقل أن تضل، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب، وهم يزدادون في الضلالة.
٦١٧
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :﴿أولئك هم الغافلون﴾ قال عطاء : عما أعدّ الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.
﴿و الأسماء الحسنى﴾ ذكر ذلك في أربع سور أوّلها هذه السورة، وثانيها في آخر سورة بني إسرائيل في قوله تعالى :﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعو فله الأسماء الحسنى﴾ (الإسراء، ١١٠)
وثالثها في أوّل طه وهو قوله تعالى :﴿الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى﴾ (طه، ٨)
ورابعها في آخر الحشر في قوله تعالى :﴿هو الله الخالق البارىء المصوّر له الأسماء الحسنى﴾ (الحشر، ٢٤)


الصفحة التالية
Icon