فإن قيل : كيف وصفها بأنها عباد مع أنها جماد ؟
أجيب : بأنّ المشركين لما ادّعوا أنّ الأصنام تضرّ وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة، فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتاً لهم وتوبيخاً ولذلك قال :﴿فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين﴾ في كونها آلهة، ولم يقل : فادعوهنّ فليستجبن، وقال :﴿إنّ الذين﴾، ولم يقل : التي، وبأنّ هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين ؛ لأنهم لما نحتوها بصورة الإناسي قال لهم : إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم، فلا يستحقون عبادتكم كما إنه لا يستحق بعضكم عبادة بعض، فلم جعلتم أنفسكم عبيداً، وجعلتموها آلهة وأرباباً.
ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم بقوله تعالى :
﴿ألهم أرجل يمشون بها أم﴾ أي : بل الله ﴿لهم أيد يبطشون بها أم﴾ أي : بل الله ﴿لهم أعين يبصرون بها أم﴾ أي : بل الله ﴿لهم آذان يسمعون بها﴾ وهذا الاستفهام إنكاري أي : ليس لهم شيء من ذلك مما هو لكم، فكيف تعبدونهم وأنتم أتم حالاً منهم ؟
إذ لا يليق بالإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الأرذل، ونظير هذا قول إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه :﴿لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً﴾ (مريم، ٤٢)
وقد تعلق بعض الجهال بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى، فقال : إنّ الله تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلاً على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية، وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى.
٦٢٥
أجيب : بأن المقصود من هذه الآية بيان أنّ الإنسان أفضل وأحسن حالاً من الصنم ؛ لأنّ الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة، والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة، فكان الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم، فاشتغال الأفضل الأكمل بحال الأخس ألادون جهل، فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال ﴿قل ادعوا﴾ أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ادعوا ﴿شركاءكم﴾ أي : إلى هلاكي ﴿ثم كيدون﴾ قال الحسن : كانوا يخوّفونه ﷺ بآلهتهم فقال الله تعالى له : قل لهم ادعوا شركاءكم ثم كيدون أي : ليظهر لكم أنها لا قدرة لها على إيصال المضارّ إليّ بوجه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢٢
وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وهشام له فيها وجهان : الإثبات والحذف، وصلاً ووقفاً، والباقون يحذفونها وصلاً ووقفاً. ثم تهكم عليهم ﷺ بقوله :﴿فلا تنظرون﴾ أي : فأعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم، فإنكم لا تقدرون على ذلك، وعلل عدم قدرتهم على ذلك بقوله :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢٢
﴿إنّ وليي الله﴾ الذي يتولى حفظي ونصري هو الله ﴿الذي نزل الكتاب﴾ المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين وهو القرآن ﴿وهو﴾ أي : الله سبحانه ﴿يتولى الصالحين﴾ أي : بنصره وحفظه، فلا يضرهم عداوة من عاداهم، قال ابن عباس : يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئاً ولا يعصونه، فمن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه وفي هذا مدح للصالحين، وأنّ من تولاه الله تعالى بحفظه لا يضره شيء، وعن عمر بن عبد العزيز أنه ما كان يدخر لأولاده شيئاً، فقيل له فيه، فقال : ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه هو الله تعالى، ومن كان الله تعالى له ولياً فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال الله تعالى :﴿فلن أكون ظهيراً للمجرمين﴾ ومن رده الله تعالى لم أكن مشتغلاً بمهماته ﴿والذين تدعون من دونه﴾ أي : الله ﴿لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون﴾ أي : فكيف أبالي بهم ؟
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢٦
فإن قيل : هذه الأشياء قد صارت مذكورة في الآيات المتقدّمة فما الفائدة في تكريرها ؟
أجيب : بأنّ الأوّل مذكور على جهة التقريع، وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين، وهذه الأصنام ليست كذلك، فلا تكون صالحة للإلهية ﴿وإن تدعوهم﴾ أي : الأصنام ﴿إلى الهدى لا يسمعوا﴾ دعاءكم ﴿وتراهم﴾ يا محمد ﴿ينظرون إليك﴾ أي : يقابلونك كالناظر ﴿وهم لا يبصرون﴾ لأنهم صوّروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه، وقال الحسن : المراد بهذا المشركون، ومعناه إن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم ؛ لأنّ آذانهم قد صمت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون أي : ببصائر قلوبهم.