فائدة : إنما قال تعالى :﴿واذكر ربك﴾ ولم يقل : واذكر إلهك ولا غيره من الأسماء وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه رباً، وأضاف نفسه إليه، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان، والمقصود منه أن يصير العبد فرحاً مسروراً مبتهجاً عند سماع هذا الاسم، لأنّ لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام إنعام الله تعالى عليه، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامه كما قال تعالى :﴿وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها﴾
٦٢٩
(إبراهيم، ٣٤)
فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء، فإذا سمع بعد ذلك قوله :﴿تضرعاً وخيفة﴾ عظم الخوف وحينئذٍ يحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف، وعنده يكمل الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام :"لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا" وهذا جرى عليه بعضهم في حالة الصحة، فيكون الخوف والرجاء مستويان.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢٦
والذي جرى عليه الغزالي وهو التحقيق أنه إن قوي رجاؤه يقوى جانب الخوف والعكس بالعكس، وأما حال المرض فيكون جانب الرجاء أرجح، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيّ ﷺ دخل على شاب وهو في الموت فقال :"كيف تجدك" ؟
قال : أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله ﷺ "لا يجتمعان في قلب مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف" ﴿ودون الجهر من القول﴾ أي : ومتكلماً كلاماً فوق السر ودون الجهر أي : قصداً بينهما، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص ﴿بالغدوّ﴾ جمع غدوة، وقيل : إنه مصدر ﴿والآصال﴾ جمع أصيل، وهو ما بين صلاة العصر إلى الغروب، وإنما خص هذين الوقتين بالذكر ؛ لأنّ الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو آخر الموت إلى اليقظة التي هي كالحياة فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم، وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أوّل أعماله ذكر الله تعالى، وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب الذكر ؛ لأنها حالة تشبه الموت، ولعله لا يقوم من تلك النومة، فيكون موته على ذكر الله تعالى، وهو المراد من قوله تعالى :﴿ولا تكن من الغافلين﴾ عن ذكر الله.
وقيل : إنما خصا بالذكر ؛ لأنّ الصلاة بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر مكروهة، واستحب للعبد أن يذكر الله تعالى فيهما ليكون في جميع أوقاته مشتغلاً بما يقرّبه إلى الله تعالى من صلاة وذكر، وقيل : إنّ أعمال العباد تصعد أوّل النهار وآخره، فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر، ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى الغروب، فاستحب له الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله بالذكر وختامه بالذكر.
﴿إنّ الذين عند ربك﴾ أي : الملائكة المقرّبين بالفضل والكرامة ﴿لا يستكبرون﴾ أي : لا يتكبرون ﴿عن عبادته﴾ لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه ﴿ويسبحونه﴾ أي : وينزهونه عن جميع النقائص، ويقولون : سبحان الله ربنا ﴿وله يسجدون﴾ أي : ويخضعون له بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره، وفي هذا إشارة إلى أنّ الأعمال تنقسم إلى قسمين : أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فأعمال القلوب هي تنزيه الله تعالى عن كل ما سواه، وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله :﴿ويسبحونه﴾ وعبر عن أعمال الجوارح بقوله :﴿وله يسجدون﴾ ليوافق الملائكة المقرّبين في عبادتهم، وعن معدان قال : سألت ثوبان مولى رسول الله ﷺ قلت : حدّثني حديثاً ينفعني الله به قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة"، وفي رواية قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد
٦٣٠
سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة"، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال :"كان رسول الله ﷺ يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته في غير وقت صلاة"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" والحديث الذي ذكره البيضاوي تبعاً للزمخشري وهو :"من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة" حديث موضوع.
٦٣١
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢٦