﴿يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله﴾ أي : بالأمانة وغيرها ﴿يجعل لكم فرقاناً﴾ أي : هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ﴿ويكفر عنكم سيآتكم﴾ أي : يسترها ما دمتم على التقوى ﴿ويغفر لكم﴾ أي : يمح ما كان منكم غير صالح عيناً وأثراً، وقيل : السيآت الصغائر، والذنوب الكبائر، وقيل : المراد ما تقدّم وما تأخر ؛ لأنها في أهل بدر، وقد غفر الله تعالى لهم، وقوله تعالى :﴿وا ذو الفضل العظيم﴾ تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان، وإنه ليس مما توجبه تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاماً على عمله.
ولما ذكر سبحانه وتعالى المؤمنين بنعمه عليهم بقوله تعالى :﴿واذكروا إذ أنتم قليل﴾ إلى آخره، عطف عليه قوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٤٦
وإذ يمكر بك الذين كفروا﴾
فذكر رسوله الله ﷺ نعمه عليه، وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه، وهذه السورة مدنية، وهذا المكر كان بمكة، ولكن الله تعالى ذكره بالمدينة مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله تعالى عليه في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم، وكان ذلك المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسرين إنّ قريشاً لما أسلمت الأنصار وبايعوه فرقوا أن يتفاقم أمر رسول الله ﷺ فاجتمعت رؤساؤهم كأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي سفيان وهشام بن عمرو وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبي البحتري بن هشام في دار الندوة متشاورين في أمره ﷺ فدخل عليهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شيخ، فلما رأوه قالوا : من أنت ؟
قال : شيخ من نجد سمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً قالوا : ادخل فدخل، فقال أبو البحتري : رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدّوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك مثل ما هلك من قبله من الشعراء، فصرخ عدوّ الله النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم والله لئن حبستموه في بيت ليأتينكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم قالوا : صدق الشيخ النجدي، فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال النجدي : بئس الرأي تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم، فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم،
٦٤٨
ألم تروا إلى حلاوة منطقه وطلاوة لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه ؟
والله لئن فعلتم ذلك فيذهب ويستميل قلوب قوم، ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم، قالوا : صدق والله الشيخ النجدي، فقال أبو جهل لعنه الله تعالى : والله لأشيرن عليكم برأي لا رأي غيره، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً وتعطوه سيفاً صارماً، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، فلا تقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا، فقال إبليس الملعون : صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً القول ما قال لا أرى غيره، فتفرّقوا على قول أبي جهل مجمعين على قتله، فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام النبيّ ﷺ فأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج إلى المدينة فأمر رسول الله ﷺ علياً رضي الله عنه فنام في مضجعه، وقال له : اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ثم خرج النبيّ ﷺ فأخذ قبضة من تراب، وأخذ الله تعالى أبصارهم عنه، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ :﴿إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً﴾ إلى قوله تعالى :﴿فهم لا يبصرون﴾ (يس، ٩)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٤٦
ومضى إلى الغار هو وأبو بكر، وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت بمكة عنده، وكانت الودائع تودع عنده لصدقه وأمانته، وبات المشركون يحرسون علياً على فراش رسول الله ﷺ يحسبون إنه النبيّ ﷺ فلما أصبحوا بادروا إليه فرأوا علياً، فقالوا له : وأين صاحبك ؟
فقال : لا أدري، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا : لو دخله لم تكن تنسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثاً، ثم قدم المدينة وأبطل الله مكرهم، وهذا معنى قوله تعالى :﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا﴾ ﴿ليثبتوك﴾ أي : يوثقوك ويحبسوك ﴿أو يقتلوك﴾ كلهم قتلة رجل واحد ﴿أو يخرجوك﴾ من مكة ﴿ويمكرون﴾ بك ﴿ويمكر الله﴾ أي : يردّ مكرهم عليهم بتدبير أمرك بأن أوحي إليك ما دبروه، وأمرك بالخروج إلى المدينة، وأخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا ﴿وا خير الماكرين﴾ أي : أعلمهم به، فلا ينفذ مكرهم دون مكره.
قال البيضاوي : وإسناد أمثال هذا إنما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم، اه.


الصفحة التالية
Icon