﴿وما لهم أن لا يعذبهم الله﴾ بالسيف بعد خروجك والمستضعفين، فنفى تعالى في الآية أنه لا يعذبهم ما دام الرسول والمؤمنون فيهم، وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم إذا خرجوا من بينهم، وقال الحسن : الآية الأولى منسوخة بهذه، وردّ بأنّ الأخبار لا يدخلها النسخ، واختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم : لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر، وقيل : يوم فتح مكة، وقال ابن عباس : هذا العذاب هو عذاب الآخرة، والعذاب الذي نفي عنهم هو عذاب الدنيا، ثم بيّن تعالى ما لأجله يعذبهم، فقال :﴿وهم يصدّون﴾ أي : يمنعون النبيّ ﷺ والمسلمين ﴿عن المسجد الحرام﴾ أن يطوفوا به وذلك عام الحديبية، ونبه تعالى على أنهم يصدّونهم لادعائهم أنهم أولياؤه، فكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم، فنصد من نشاء وندخل من نشاء، ثم بيّن تعالى بطلان هذه الدعوى بقوله تعالى :﴿وما كانوا أولياءه﴾ كما زعموا ﴿إن﴾ أي : ما ﴿أولياؤه إلا المتقون﴾ أي : الذين يتحرّزون عن المنكرات الذين لا يعبدون فيه غيره، وقيل : الضميران لله ﴿ولكنّ أكثرهم﴾ أي : الناس ﴿لا يعلمون﴾ أن لا ولاية لهم عليه وكأنه نبه بالأكثر على أنّ منهم من يعلم ويعاند، أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٥٠
وما كان صلاتهم عند البيت﴾ أي : دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة، أو ما يضعون موضعها ﴿إلا مكاء﴾ أي : صفيراً ﴿وتصدية﴾ أي : تصفيقاً، قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون.
وقال مجاهد : كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبيّ ﷺ في الطواف ويستهزؤون به، ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، ويخلطون عليه طوافه وصلاته، فالمكاء جعل الأصابع في الشدق، والتصدية الصفير، وقال مقاتل : كان النبيّ ﷺ إذا دخل المسجد الحرام قام رجلان عن يمينه ورجلان عن يساره يصفران ويصفقان ليخلطوا على النبيّ ﷺ صلاته ﴿فذوقوا العذاب﴾ أي : عذاب القتل والأسر ببدر في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كنتم تكفرون﴾ اعتقاداً وعملاً. ولما ذكر تعالى عبادة الكفار البدنية، وهي المكاء والتصدية، ذكر عقبه عبادتهم المالية التي لا جدوى لها في الآخرة بقوله تعالى :
﴿إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم﴾ في حرب النبيّ ﷺ ﴿ليصدّوا عن سبيل الله﴾ أي :
٦٥١
ليصرفوا عن دين الله تعالى نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا إثني عشر رجلاً منهم : أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وكلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم أيام بدر عشر جزائر، أو في أبي سفيان استأجر يوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش أي : اتخذه جيشاً، وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً، أو في أصحاب العير، فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم : أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرنا ففعلوا ﴿فسينفقونها ثم تكون﴾ أي : عاقبة الأمر ﴿عليهم حسرة﴾ أي : ندامة لفواتها وفوات ما قصدوه ﴿ثم يغلبون﴾ أي : آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك كما اتفق لهم في بدر، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوّة، ولم يغن عنهم شيء من ذلك بل كان وبالاً عليهم فإنه كان سبباً لجراءتهم حتى قدموا فما كان في الحقيقة إلا قوّة للمؤمنين ﴿والذين كفروا﴾ أي : ثبتوا على الكفر ﴿إلى جهنم يحشرون﴾ أي : يساقون إليها يوم القيامة فهم في خزي في الدنيا والأخرة.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل تعالى : وإلى جهنم يحشرون ؟
أجيب : بأنه أسلم منهم جماعة كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وحكيم بن حزام، بل ذكر أن الذين ثبتوا على الكفر يكونون كذلك.
﴿ليميز الله الخبيث﴾ أي : الفريق الكافر ﴿من الطيب﴾ أي : من الفريق المؤمن ﴿ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً﴾ أي : يجمعه متراكماً بعضه على بعض كقوله تعالى :﴿كادوا يكونون عليه لبداً﴾ (الجن، ١٩)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٥٠
أي : لفرط ازدحامهم، وقيل : ليميز المال الخبيث الذي أنفقه الكافر على عداوة محمد ﷺ من المال الطيب الذي أنفقه المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصرة النبيّ ﷺ فيركمه جميعاً ﴿فيجعله في جهنم﴾ في جملة ما يعذبون به كقوله تعالى :﴿فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم﴾ (التوبة، ٣٥)
الآية، واللام على هذا متعلقة بتكون من قوله تعالى :﴿ثم تكون عليهم حسرة﴾ وعلى الأوّل متعلقة بيحشرون أو يغلبون.
وقرأ ﴿ليميز﴾ حمزة والكسائيّ بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثانية مع الكسر والباقون بفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الثانية، وقوله تعالى :﴿أولئك﴾ إشارة إلى الذين كفروا ﴿هم الخاسرون﴾ أي : الكاملون في الخسران ؛ لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
ولما بيّن تعالى ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى طريق الصواب.