ولما انهزموا وبلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة، فبلغه ذلك فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وقوله تعالى :﴿وا شديد العقاب﴾ يجوز أن يكون من كلام إبليس أي : إني أخاف الله ؛ لأنه شديد العقاب وأن يكون مستأنفاً أي : والله شديد العقاب لمن خالفه وكفر به.
فإن قيل : كيف يقدر إبليس أن يتصوّر بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطاناً ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى أعطاه قوّة، وأقدره على فعل ذلك كما أعطى الملائكة قوّة وأقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنية لم تتغير، فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة.
وروي أنه ﷺ قال :"ما رؤي إبليس يوماً فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة" وما ذاك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما كان من يوم بدر.
٦٥٨
﴿إذ﴾ أي : واذكر إذ ﴿يقول المنافقون﴾ أي : من أهل المدينة، والمنافق هو من يظهر الإسلام ويخفي الكفر كما أنّ المرائي هو من يظهر الطاعة ويخفي المعصية ﴿والذين في قلوبهم مرض﴾ أي : شك وارتياب، وهم قوم من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يقع الإسلام في قلوبهم ولم يتمكن، فلما خرج قريش إلى حرب رسول الله ﷺ خرجوا معهم إلى بدر، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا :﴿غرّ هؤلاء﴾ المسلمين ﴿دينهم﴾ إذ خرجوا مع قلتهم يقاتلون الجمع الكثير توهماً أنهم ينصرون بسببه، فقتلوا جميعاً منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وعديّ بن أمية بن خلف الجمحي والعاص بن أمية بن الحجاج، قال تعالى في جوابهم :﴿ومن يتوكل على الله﴾ أي : يثق به يغلب ﴿فإنّ الله عزيز﴾ أي : غالب على أمره ﴿حكيم﴾ أي : في صنعه يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل، ويعجز عن إدراكه.
ولما شرح تعالى أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت بقوله تعالى :
﴿ولو ترى﴾ أي : عاينت وشاهدت يا محمد ﴿إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة﴾ أي : بقبض أرواحهم عند الموت ﴿يضربون وجوههم وأدبارهم﴾ أي : ظهورهم وأستاههم، قال البيضاويّ : ولعلّ المراد تعميم الضرب أي : يضربون ما أقبل منهم وما أدبر بمقامع من حديد ﴿و﴾ يقولون لهم :﴿ذوقوا عذاب الحريق﴾ أي : النار.
قال ابن عباس : كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم، فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح، وجواب لو محذوف، والتقدير لرأيت منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً وعقاباً شديداً، والملائكة مرفوع بالفعل ويضربون حال منهم ويجوز أن يكون في قوله : يتوفى ضمير الله تعالى والملائكة مرفوعة بالابتداء ويضربون خبر.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٥٦
ذلك﴾
أي : الذي نزل بكم من القتل والضرب والحريق ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿قدّمت﴾ أي : كسبت ﴿أيديكم﴾ من الكفر والمعاصي، وإنما عبر بالأيدي دون غيرها لأنّ أكثر الأفعال تزاول بها والتحقيق إنّ الإنسان جوهر واحد وهو الفعال وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع وهو العاصي وهذه الأعضاء آلة له وأدوات في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان ﴿وأنّ الله ليس بظلام للعبيد﴾ فلا يعذب أحداً من خلقه بغير ذنب وظلام للتكثير لأجل العبيد أي : أنه بمعنى ذي ظلم.
﴿كدأب﴾ أي : دأب هؤلاء الكفار بكفرهم مثل دأب ﴿آل فرعون﴾ وهو عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه أي : داموا عليه فجوزي هؤلاء بالقتل والأسر يوم بدر كما جوزي آل فرعون بالإغراق، وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال : فلان دأب في كذا أي : داوم عليه وسميت العادة دأباً لأنّ الإنسان مداوم على عادته مواظب عليها ﴿والذين من قبلهم﴾ أي : من قبل آل فرعون وقوله تعالى :﴿كفروا بآيات الله﴾ تفسير لدأب آل فرعون ﴿فأخذهم الله بذنوبهم﴾ أي : بسبب كفرهم كما أخذ هؤلاء ﴿الله الله قويّ﴾ أي : على ما يريده فينتقم ممن كفر وكذب رسله ﴿شديد العقاب﴾ ممن كفر وكذب رسله وقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٥٦
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما حلّ بهم من العقاب ﴿بأن﴾ أي : بسبب أن ﴿الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم﴾ أي : مبدلاً لها بالنقمة ﴿حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ أي : بأن يبدّلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ منه.
٦٥٩


الصفحة التالية
Icon