روي أنّ معاوية كان بينه وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول : الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدراً، فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية يسأله فقال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء" فرجع معاوية، قال الرازي : حاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بقتل من ينقض العهد على أقبح الوجوه، وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه، من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه، قال أهل العلم : إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن عاهدهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض، إمّا أن يظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به، فإن كان الأوّل وجب الإعلام عليه على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك أن قريظة عاهدوا رسول الله ﷺ ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على النبيّ ﷺ فحصل للنبيّ ﷺ خوف الغدر به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء، ويعلمهم بالحرب، وأمّا إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد بل يفعل كما فعل رسول الله ﷺ بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهم في ذمّة النبيّ ﷺ فلم يرعهم إلا وجيش النبيّ ﷺ بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.
ولما بيّن تعالى ما يفعله ﷺ في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه، وذكر أيضاً ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد، بين أيضاً حال من فاته في يوم بدر وغيره لكي لا تبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية النبيّ ﷺ مبلغاً عظيماً بقوله تعالى :
﴿ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا﴾ أي : خلصوا من القتل والأسر يوم بدر ﴿إنهم لا يعجزون﴾ الله أي : لا يفوتونه بهذا السبق في الانتقام منهم، إمّا في الدنيا، وإمّا في الآخرة بعذاب النار، وفيه تسلية للنبيّ ﷺ فيمن، فاته من المشركين ولم ينتقم منه، فأعلمه الله تعالى أنهم لا يعجزونه، وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص يحسبن بالياء على الغيبة على أن الفعل للذين كفروا، والباقون بالتاء على الخطاب للنبيّ ﷺ ولما أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يشرد من صدر منه نقض العهد إلى من خاف منه النقص واتفق لأصحاب النبيّ ﷺ أنهم قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار بقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٥٩
وأعدوا لهم﴾
أي : لقتالهم ﴿ما استطعتم من قوّة﴾ الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه، وفي المراد بالقوّة أقوال.
الأوّل : الرمي وقد جاءت مفسرة به عن النبيّ ﷺ فيما رواه عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله ﷺ وهو على المنبر يقول :"وأعدوا لهم ما استطعتم ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً" أخرجه مسلم، وعن أبي أسيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا :"إذا
٦٦١
كبسوكم فعليكم بالنبل"، وفي رواية :"ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة : تأديب الرجل فرسه، وملاعبة أهله، ورميه بقوسه أي : نبله، فإنهنّ من الحق ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها أو كفرها" أخرجه الترمذي.
والثاني : إنها الحصون.
والثالث : إنها جميع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوّة في الحرب على قتال عدوّكم وقوله تعالى :﴿ومن رباط الخيل﴾ مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله سواء كانت ذكوراً أو إناثاً، وقال عكرمة : المراد الإناث.


الصفحة التالية
Icon