﴿وألف﴾ أي : جمع ﴿بين قلوبهم﴾ وذلك إنّ النبيّ ﷺ بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، وحميتهم عظيمة حتى لو أنّ رجلاً من قبيلة لطم لطمةً واحدة، قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً دعاة، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية، مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوّة محمد ﷺ ولهذا قال تعالى :﴿لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم﴾ أي : تناهت عداوتهم إلى حد لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم تقدر على الإلفة والصلاح بينهم ﴿ولكن الله ألف بينهم﴾ بقدرته البالغة، فإنه تعالى المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء ﴿إنه﴾ أي : الله تعالى ﴿عزيز﴾ أي : غالب على أمره لا يعصى عليه ما يريد ﴿حكيم﴾ لا يخرج شيء عن حكمته، وقيل : الآية نزلت في الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم فأنساهم الله تعالى ذلك، وألف بين قلوبهم بالإسلام حتى تصادقوا وصاروا أنصاراً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦٣
يأيها النبيّ حسبك﴾
أي : كافيك ﴿ا﴾.
فإن قيل : هذا مكرّر، أجيب : بأنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقاً على جميع التقديرات، فلا يلزم حصول التكرار ؛ لأنّ المعنى في الآية الأولى : إن أرادوا خداعك كفاك الله تعالى أمرهم، والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين وقوله تعالى :﴿ومن اتبعك من المؤمنين﴾ إمّا في محل نصب على المفعول معه كقول الشاعر :
*فحسبك والضحاك سيف مهند*
يروي الضحاك بالنصب على أنه مفعول معه، والمعنى : كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصراً، أو رفع عطفاً على اسم الله تعالى أي : كفاك الله وكفى المؤمنين، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن سعيد بن جبير أسلم مع النبيّ ﷺ ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فتمم الله تعالى به الأربعين فنزلت هذه الآية.
﴿يأيها النبيّ حرّض المؤمنين﴾ أي : حثهم ﴿على القتال﴾ للكفار والتحريض في اللغة،
٦٦٤
كالتحضيض، وهو الحث على الشيء ﴿إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين﴾ منهم ﴿وإن يكن منكم مائة﴾ صابرة ﴿يغلبوا ألفاً من الذين كفروا﴾ وهذا خبر بمعنى الأمر أي : ليقاتل العشرون منكم المائتين والمائة الألف قتال عشرة أمثالكم.
تنبيه : تقييد ذلك بالصبر يدلّ على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء منها : أن يكون شديد الأعضاء قوياً جلداً، ومنها : أن يكون قويّ القلب شديد البأس شجاعاً غير جبان، ومنها : أن يكون غير متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة، فإنّ الله تعالى استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدّمة فعند حصول هذه الشروط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة.
فإن قيل : حاصل هذه العبارة المطولة إنّ الواحد يثبت للعشرة فما الفائدة في العدول إلى هذه العبارة المطولة ؟
أجيب : بأنّ هذا إنما ورد على وفق الواقعة فكان رسول الله ﷺ يبعث السرايا والغالب أن تلك السرايا ما كان ينقص عددها عن العشرين، وما كانت تزيد على المائة فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذين العددين.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالتاء على التأنيث والباقون بالياء على التذكير ﴿بأنهم﴾ أي : بسبب أنهم ﴿قوم لا يفقهون﴾ أي : جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، فلا يقاتلوا لطلب ثواب وخوف عقاب إنما يقاتلون حمية، فإذا صدقتموهم في القتال لا يثبتون معكم، وكان هذا يوم بدر فرض الله تعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين، قال عطاء عن ابن عباس : لما نزل التكليف بهذه الآية صاح المهاجرون وقالوا : يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع، ونحن في غربة وعدوّنا في أهليهم ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا، وعدوّنا ليس كذلك فنسخها الله تعالى بقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦٣


الصفحة التالية
Icon