والمراد بكونها حرماً أنّ الله تعالى حرم القتل والقتال فيها. وقيل : هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، قال البيضاويّ : وهذا يخل بالنظم أي : نظم الآية إذ نظمها يقتضي توالي الأشهر المذكورة. ﴿فاقتلوا المشركين﴾ أي : الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحساناً وكرماً ﴿حيث وجدتموهم﴾ أي : في حل أو حرم أو في شهر حرام أو غيره. ﴿وخذوهم﴾ أي : بالأسر ﴿واحصروهم﴾ أي : بالحبس عن إتيان المسجد الحرام والتصرّف في بلاد الإسلام في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى الإسلام أو القتل ﴿واقعدوا لهم﴾ أي : لأجلهم خاصة، فإن ذلك من أفضل العبادات ﴿كل مرصد﴾ أي : طريق يسلكونه لئلا ينبسطوا في البلاد. وانتصاب كل على الظرفية كقوله :﴿لأقعدن لهم صراطك المستقيم﴾ (الأعراف، ١٦)
وقيل : بنزع الخافض، قال الحسن بن الفضل : نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء. ﴿فإن تابوا﴾ أي : عن الكفر بالإيمان ﴿وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم، فوصلوا ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق. ﴿فخلوا سبيلهم﴾ أي : فدعوهم ولا تتعرّضوا لهم بشيء من ذلك، وفي هذه الآية دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله ؛ لأنه إن كان جاحداً لوجوبهما فهو مرتدّ وإلا قتل بترك الصلاة وأخذت منه الزكاة قهراً وقوتل على ذلك كما نقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : لما توفي النبيّ ﷺ واستخلف أبو بكر كفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر رضي الله تعالى عنهما : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فمن قال : لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله" فقال أبو بكر : والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله ﷺ وفي رواية : عقالاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلهم على منعها، قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت أنّ الله شرح صدر أبي بكر إلى القتال، فعرفت أنه الحق. ﴿إنّ الله غفور﴾ أي : بليغ
٦٧٥
المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها ﴿رحيم﴾ به.
﴿وإن أحد من المشركين﴾ أي : الذين أمرت بقتالهم ﴿استجارك﴾ أي : طلب أن تعامله في الإكرام معاملة الجار بعد انقضاء مدّة السياحة ﴿فأجره﴾ أي : فأمنه ودافع عنه من يقصده بسوء. ﴿حتى يسمع كلام الله﴾ أي : القرآن بسماع التلاوة الدالة عليه فيعلم بذلك ما يدعى إليه من المحاسن ويتحقق أنه ليس من كلام الخلق ﴿ثم﴾ إن أراد الانصراف ولم يسلم ﴿أبلغه مأمنه﴾ أي : الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه لينظر في أمره، ثم بعد ذلك يجوز لك قتلهم وقتالهم من غير غدر ولا خيانة. قال الحسن : هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٢
تنبيه : أحد : مرفوع بفعل مضمر يفسره الظاهر وتقديره : وإن استجارك أحد، ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء ؛ لأن إن من عوامل الفعل، فلا تدخل على غيره. ﴿ذلك﴾ أي : الأمر بالإجارة للغرض المذكور ﴿بأنهم﴾ أي : بسبب أنهم ﴿قوم لا يعلمون﴾ أي : لا علم لهم لأنهم لا عهد لهم بنبوّة ولا رسالة ولا كتاب، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم، وقوله سبحانه وتعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٢
﴿كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله﴾ استفهام معناه الجحد أي : لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد ﴿إلا الذين عاهدتم﴾ أي : من المشركين ﴿عند المسجد الحرام﴾ يوم الحديبية وهم المستثنون قبل ﴿فما استقاموا لكم﴾ أي : أقاموا على العهد ولم ينقضوه ﴿فاستقيموا لهم﴾ أي : على الوفاء وهو كقوله تعالى :﴿فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم﴾ (التوبة، ٤)
غير أنه مطلق وهذا مقيد، وما تحتمل الشرطية والمصدرية. ﴿إنّ الله يحب المتقين﴾ أي : من اتقى يوفي بعده لمن عاهده، وقد استقام ﷺ على عهدهم حتى نقضوه بإعانة بني بكر على خزاعة. وقوله تعالى :
﴿كيف﴾تكرار للاستبعاد بثبات المشركين على العهد وحذف الفعل لكونه معلوماً أي : كيف يكون لهم عهد ثابت ﴿وإن﴾ أي : والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة، فهم إن ﴿يظهروا عليكم﴾ أي : يعلو أمرهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق ﴿لا يرقبوا﴾ أي : لا يراعوا ﴿فيكم﴾ أي : في أذاكم بكل جليل وحقير ﴿إلا﴾ أي : قرابة محققة قال حسان :
*لعمرك إن إلّك من قريش ** كإلِّ السقب من رأل النعام*
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٦