قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ولما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ عليّ رضي الله عنه عليه القول، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا ؟
فقال له عليّ : وهل لكم محاسن ؟
قال : نعم نحن أفضل منكم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني يعني الأسير فأنزل الله تعالى رداً على العباس.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٨
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله﴾ أي : ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مسجد الله بدخوله والقعود فيه وخدمته، فإذا دخل بغير إذن مسلم عزر وإن دخل بإذنه لم يعزر، لكن لا بد من حاجة فيشترط للجواز الإذن والحاجة، ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أنّ النبيّ ﷺ شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد وهو كافر، وذهب جماعة إلى أنّ المراد منه العمارة المعروفة من بناء المسجد وترميمه عند خرابه فيمنع منه الكافر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون السين ولا ألف بعدها على التوحيد، وفي هذا دلالة على أن المراد المسجد الحرام. والباقون بفتح السين، وألف بعدها على الجمع. وفيه دلالة على أن المراد جميع المساجد، وقيل : المراد على القراءتين المسجد الحرام، وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع. وقوله تعالى :﴿شاهدين على أنفسهم بالكفر﴾ حال من الواو في يعمروا، أي : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ظهور كفرهم، قال الحسن : لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك أنّ كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون : لا نطوف بثياب قد عملنا فيها المعاصي وكلما طافوا أسبوعاً سجدوا للأصنام فلم يزدادوا من الله إلا بعداً. وقيل : هو قولهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وقال السدي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل : من أنت ؟
فيقول : نصراني، واليهوديّ يقول : يهودي، والمشرك يقول : مشرك. ﴿أولئك حبطت﴾ أي : بطلت ﴿أعمالهم﴾ أي : الأعمال التي عملوها من أعمال البر وافتخروا بها مثل العمارة والحجابة والسقاية، وفك العناة مع الكفر لا تأثير لها ﴿وفي النار هم خالدون﴾ لجعلهم الكفر مكان الإيمان.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنّ مرتكب الكبيرة من أهل الإيمان لا يبقى مخلداً في النار من وجهين : الأوّل قوله تعالى :﴿وفي النار هم خالدون﴾ يفيد الحصر أي : هم فيها خالدون لا غيرهم، ولما كان هذا وارداً في حق الكفار ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر. الثاني : أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار عن كفرهم، فلو كان هذا الحكم جزاء لغير الكافر لما صح تهديد الكافر به. وفي الكشاف : أن الكبيرة تهدم الأعمال وهو جار على مذهبه الفاسد، ولما بيّن تعالى أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين المستحق لعمارتها بقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٨
إنما يعمر مساجد الله من آمن با واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش﴾ أحداً ﴿إلا الله﴾ أي : إنما تتم عمارتها لهؤلاء الجامعين بين الكمالات العملية والعلمية.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر الإيمان برسوله ﷺ مع أنّ الإيمان به شرط في صحة الإيمان ؟
أجيب : بأنه تعالى لما ذكر الصلاة والصلاة لا تتم إلا بالتشهد وهو مشتمل على ذكره كان ذلك كافياً، ومما علم من أن الإيمان بالله تعالى قرينه وتمامه الإيمان به فكان الإيمان بالرسول ﷺ مذكوراً بطريق أبلغ
٦٨٠
وهو طريق الكناية لما مرّ من مقارنتهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر. وقيل : إن المشركين كانوا يقولون : إنّ محمداً إنما ادّعى رسالة الله طلباً للرّياسة والملك، فلذلك ترك ذكر النبوّة فكأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوّة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرياسة.
فإن قيل : كيف قال تعالى :﴿ولم يخش إلا الله﴾ والمؤمن يخاف الظَلَمة والمفسدين ؟
أجيب : بأن المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله تعالى عنه رضا غيره لتوقع مخوف. وإذا اعترضه أمران : أحدهما : حق الله تعالى، والآخر : حق نفسه ؛ أن يخاف الله تعالى، فيؤثر حق الله تعالى على حق نفسه. وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم. ومن عمارة المساجد : ترميمها وفرشها وتنويرها بالسرج التي لا سرف فيها، وإدامة العبادة فيها والذكر. ومن الذكر درس العلم فيها، بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن المساجد لأجله كحديث الدنيا.