﴿إلا﴾ أي : بإدغام نون إن الشرطية في لا في الموضعين ﴿تنفروا﴾ أي : تخرجوا مع النبيّ ﷺ للجهاد ﴿يعذبكم عذاباً أليماً﴾ أي : مؤلماً في الآخرة لأنّ العذاب الأليم لا يكون إلا فيها أو بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو، وقيل : باحتباس المطر عنهم قال ابن عباس : استنفر رسول الله ﷺ حياً من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر فكان ذلك عذابهم ﴿ويستبدل قوماً غيركم﴾ أي : يأت بهم بدلكم قال ابن عباس : هم التابعون وقال سعيد بن جبير : أبناء فارس، وقال أبو روق : هم أهل اليمن، قال الرازي : وهذه الوجوه ليست تفسيراً للآية لأنّ الآية ليس فيها إشعار بها بل حمل لذلك المطلق على صورة معينة شاهدوها وقال في الكشاف بعد ذكره ذلك والظاهر مستغن عن التخصيص ﴿ولا تضروه شيئاً﴾ أي : لا يقدح تثاقلكم في نصردينه شيئاً فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر وقيل : الضمير راجع إلى الرسول ﷺ أي : ولا تضروره لأنّ الله تعالى وعده أن ينصره ووعده كائن لا محالة ﴿وا على كل شيء قدير﴾ أي : فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا عدد كما قال تعالى :﴿إلا تنصروه﴾ أي : محمداً ﷺ أيها المؤمنون ﴿فقد نصره الله﴾ فإنه المتكفل بنصرة رسوله ﷺ في إعزاز دينه وإعلاء كلمته أعنتموه أو لم تعينوه فإنه قد نصره عند قلة الأولياء وكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد وقد نصره ﴿إذ﴾ أي : حين ﴿أخرجه الذين كفروا﴾ من مكة حين مكروا به حيث تشاوروافي قتله أو إخراجه أو إثباته في دار الندوة فكان ذلك لإذن الله له في الخروج من بينهم حالة كونه ﴿ثاني اثنين﴾ أي : أحدهما أبو بكر رضي الله عنه لا ثالث لهما لم يبصرهما إلا الله تعالى وقوله تعالى :﴿إذ﴾ بدل من إذ قبله ﴿هما في الغار﴾ أي : غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على
٧٠٠
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٩٨
مسيرة ساعة منها لما كمنا فيه ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب وذلك قبل أن يصلا إليكم ويعوّلا في النصر عليكم وقوله تعالى :﴿إذ﴾ بدل ثان ﴿يقول﴾﴿لصاحبه﴾ أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء وقد قال له أبو بكر لما رأى أقدام المشركين لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا ﴿لا تحزن﴾ والحزن همّ غليظ بتوجع يرق له القلب وإنما كان خوفه على رسول الله ﷺ فإنهما لما وصلا الغار نزل أبو بكر الغار أولاً يلتمس ما في الغار فقال له النبيّ ﷺ "ما لك" فقال : بأبي أنت وأمّي الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جُحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي رسول الله ﷺ فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله ﷺ فقال له ﷺ "لا تحزن" ﴿إن الله معنا﴾ فقال له أبو بكر : وإنّ الله لمعنا فقال الرسول ﷺ "نعم" فجعل يمسح الدموع عن خدّه.
وروي لما طلع المشركون فوق الغار وأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله ﷺ وقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه الصلاة والسلام :"ما طنك باثنين الله ثالثهما".
وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين باضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه فقال ﷺ "اللهمّ أعم أبصارهم" فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يرون أحداً ويقولون لو دخلا هذا الغار تكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت.
تنبيه : دلت هذه الآية على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه من وجوه منها أنّ الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله ﷺ جماعة من المخلصين وكانوا في النسبة إلى شجرة رسول الله ﷺ أقرب من أبي بكر رضي الله عنه فلولا أنّ الله تعالى أمره بأن يستصحبه في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله تعالى له بهذا التشريف دال على منصب عال له في الدين ومنها قوله ﷺ "لا تحزن إنّ الله معنا" ولا شك أنّ المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وقد شرك ﷺ بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية وكفى بها شرفاً ومنها أن قوله :"لا تحزن" نهى عن الحزن مطلقاً والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أنه لا يحزن أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت ومنها إطباق الكل على أنّ أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله ﷺ وعلى أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٩٨


الصفحة التالية
Icon