﴿ذلكم﴾ أي : هذا الأمر العظيم ﴿خير لكم﴾ أي : خاص بكم ويجوز أن يكون أفعل تفضيل، أي : عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كما قال ﷺ لمن سأله هل يمكن بلوغ درجة المجاهد فقال :"هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر" ثم ختم تعالى الآية بقوله تعالى :﴿إن كنتم تعلمون﴾ أي : ما حصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق وأن القول بالثواب والعقاب صدق.
ونزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك :﴿لو كان﴾ ما تدعوهم إليه ﴿عرضاً﴾ أي : متاعاً من الدينا، يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ﴿قريباً﴾ أي : سهل المأخذ وقوله تعالى :﴿وسفراً قاصداً﴾ أي : وسطاً فحذف اسم كان وهو ما قدرته، قال الزجاج : لدلالة ما تقدم عليه وإنما سمي السفر قاصداً لأن المتوسط بين الإفراط والتفريط يقال له : مقتصد قال تعالى :﴿فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد﴾ (فاطر، ٣٢)
لأن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد وقوله تعالى :﴿قاصداً﴾ أي : ذا قصد كقولهم : لابن وتامر ﴿لاتبعوك﴾ أي : وافقوك طلباً للغنيمة ﴿ولكن بعدت عليهم الشقة﴾ أي : المسافة التي تقطع بمشقة ﴿وسيحلفون﴾ أي : المتخلفون ﴿با﴾ إذا رجعت من تبوك معتذرين ﴿لو استطعنا﴾ أي : لو كان لنا استطاعة بالبدن أو العدة ﴿لخرجنا﴾ أي : في هذه الغزاة ﴿معكم يهلكون أنفسهم﴾ أي : بسبب هذه الأيمان الكاذبة كما قال تعالى :﴿وا يعلم إنهم لكاذبون﴾ في ذلك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٠٣
عفى الله عنك لم أذنت لهم﴾ أي : عفا الله تعالى عنك يا محمد ما كان منك في ذلك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك، واختلفوا هل في ذلك معاتبة للنبي ﷺ أم لا ؟
فقال عمرو بن ميمون : اثنان فعلهما رسول الله ﷺ لم يؤمر بهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه الله تعالى كما تسمعون، وقال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف بدأ الله تعالى بالعفو قبل أن يعيره، وقال القاضي عياض في الشفاء : إن هذا أمر لم يتقدّم
٧٠٤
للنبي ﷺ فيه من الله تعالى نهي فيعد معصية ولأعده الله تعالى معصية عليه بل لم يعده أهل العلم معاتبة وغلطوا من ذهب إلى ذلك وليس عفا بمعنى غفر بل كما قال النبي ﷺ "عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق" ولم تجب عليهم قط أي : لم يكن يلزمكم ذلك. ونحوه للقشيري قال : وإنما يقول : العفو لا يكون إلا عن ذنب، من لا يعرف كلام العرب. وقال مكي : هو استفتاح كلام مثل أصلحك الله وأعزك. وقال السمرقندي : إن معناه عافاك الله، وقال الرازي : إن ذلك يدل على مبالغة الله في توقيره وتعظيمه كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظماً عنده عفا الله عنك ما جوابك عن كلامي ورضي الله عنك ما صنعت في أمري فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا مزيد التمجيد والتعظيم أي : كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا : أصلح الله الأمير والملك ونحو ذلك. ﴿حتى يتبين لك الذين صدقوا﴾ أي : في اعتذارهم ﴿وتعلم الكاذبين﴾ أي : فيما أظهروا من الإيمان باللسان لو لم يؤذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره قال ابن عباس : لم يكن رسول الله ﷺ يعرف المنافقين يؤمئذ حتى نزلت براءة.
﴿لا يستأذنك﴾ أي : لا يطلب إذنك بغاية الرغبة فيه ﴿الذين يؤمنون با واليوم الآخر﴾ أي : الذي يكون فيه الجزاء بالثواب والعقاب ﴿أن﴾ أي : في أن ﴿يجاهدوا﴾ وإنما حسن هذا الحذف لظهوره ﴿بأموالهم وأنفسهم﴾ بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموماً عليه فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه فإن الخلص من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لا نستأذنه ﷺ في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرّة بعد مرّة فأيّ فائدة في الاستئذان ولنجاهد معه بأموالنا وأنفسنا وكانوا بحيث لو أمرهم ﷺ بالقعود لشق عليهم كما وقع لعليّ رضي الله عنه في غزوة تبوك لما أمره رسول الله ﷺ بأن يبقى في المدينة شق عليه ولم يرض حتى قال له ﷺ "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" ﴿وا عليم بالمتقين﴾ أي : الذين يتقون مخالفته ويسارعون إلى طاعته.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٠٣